إحياءً للتقليد والتراث الشعبيين اللذين نسيتهما الفئات الشابة، استُعيدت شخصية “الحكواتي” المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالتراث القديم في مدينة طرابلس. فنظّمت “جمعية تيرو للفنون” بقيادة الفنان قاسم اسطنبولي للمرّة الرابعة مهرجاناً مجانيّاً خاصّاً في سينما “أمبير” الطرابلسية. انطلق المهرجان نهار السبت 12 تشرين الثاني واستمرّ على مدى 4 أيام متواصلة، مترافقاً مع جولات في أحياء المدينة وأسواقها.
عالم الحكواتيّ
عرف العالم العربي مهنة الحكواتي، أي الشخص الذي يمتهن سرد القصص في الساحات والمقاهي وأحياناً في المنازل وعلى الطرق، منذ مطلع القرن التاسع عشر. وكان يحتشد حوله الناس كي يستمتعوا بأحاديثه وحكاياته. وحظيت هذه المهنة بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي. يقول المؤرّخ والباحث في التراث الدكتور طلال المجذوب إنّ مدينة صيدا عرفت خمسة حكواتيّين على مدى قرن ونصف قرن من الزمان، كان أوّلهم الحاج محمد الشقلي الحلبيّ. أتى إلى صيدا وأقام فيها ابتداء من عام 1837. ثمّ جاء ثلاثة مارسوا هذه المهنة كان آخرهم الحاج إبراهيم الحكواتي الذي توفّي عام 1981، أي قبل 41 سنة.
ما شهدته صيدا ينطبق على بيروت وطرابلس وبغداد والقاهرة ودمشق. فالحكواتي كان ضرورة من ضرورات التسلية والترفيه.
نظّمت “جمعية تيرو للفنون” بقيادة الفنان قاسم اسطنبولي للمرّة الرابعة مهرجاناً مجانيّاً خاصّاً في سينما “أمبير” الطرابلسي
21 حكواتيّاً/ية
يشارك في المهرجان الطرابلسي 21 حكواتيّاً من لبنان والعالم العربي، وهم: إدرير فارس وماحي صديق (الجزائر)، هشام درويش ورائدة القرمازي (تونس). واللافت والجديد مشاركة نساء حكاوتيات في المهرجان: رباب الشّيخ وزهراء مبارك ونسرين النّور وفاطمة الزّاكي (البحرين) وحفيظة أربيعة (المغرب). وسليم السّوسي وديانا السّويطي ومريم معمّر من (فلسطين). وأحمد يوسف ونيروز الطّنبولي (مصر)، ووجيه قيسيّة (سوريا). ونزيه قمر الدّين ونتالي سرحان صبّاغ وماري مطر وفراس حميّة ورجاء بشارة ورنا غدّار (لبنان).
ارتدى كلّ حكواتي الزيّ الشعبي الذي يمثّل المنطقة الآتي منها، والذي يتألّف من الطربوش الأحمر والعصا الخشبية، ومن العباءات الفضفاضة المطرّزة بخيوط لمّاعة تذكّرنا بأزياء الحكواتي الشعبي.
المرأة حكواتيّة
في زمننا هذا، تبدّلت بعض الأعراف في هذه المهنة. ومنها أنّ المرأة أصبح بإمكانها أن تكون حكواتيّة بسبب الانفتاح الاجتماعي وتبدّل طريقة العمل، إذ بات الحكواتي أو الحكواتية يقومان بعملهما في أيّ وقت من النهار وأمام جمهرة مختلطة من النساء والرجال وكبار السنّ والأطفال. والحقيقة أن المرأة في التاريخ القديم كانت هي الحكواتية، فيما هي تنظر الرجال للعودة من الأسفار والحرب والعمل. والدليل بنلوب التي تنتظر عودة عوليس من رحلته البحرية. وشهرزاد ألف ليلة وليلة التي أنقذت بالرواية بنات جنسها من خنجر شهريار.
لتأكيد ضلوع النساء في الرواية والحكايات، أجابتنا الحكواتيّة اللبنانية والعضو في جمعية “تيرو للفنون” رجاء بشارة على بعض الأسئلة التي تضيء تجربتها، وتكشف التطوّر الحاصل في هذه المهنة: “وراء كلّ حكاية حكمة. حسب عملي في المجال التربوي لسنوات طويلة أثبتت لي التجارب أنّ الحكاية عادت لتجد مكانها المناسب حتى في المجال التربوي. فالطفل أحياناً يمكنه أن يجد في الحكاية التي نرويها حلّاً لمشكلته. في أوروبا بدأ دور الحكواتي ينمو كثيراً من خلال استخدام الحكايات في معالجة الأطفال المصابين بالتوحّد. تتضمّن العروض التي يقدّمها كلّ حكواتي مشارك في المهرجان الطرابلسي حكايةً لها أهداف معيّنة، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الحكواتي يجب أن يمتلك مهارات، وأهمّها طريقة روايته للحكاية من خلال الصوت، وأن يتكلّم بصدق كي يتفاعل معه الحضور”.
البحرين: رباب الشيخ
الحكواتية رباب الشيخ التي تعمل مدرّسة في وزارة التربية البحرينية قالت لـ”أساس”: “أتيت بدعوة من المسرح الوطني في طرابلس للمشاركة في المهرجان الذي يدخل في دائرة اهتماماتي وشغفي للاطّلاع على ثقافات دول عربية مثل لبنان وتونس وفلسطين”.
وتابعت: “منذ 3 سنوات بدأت العمل على تنمية موهبة “الحكاية”، التي كنت أمارسها مع أطفالي. ثمّ قرّرت أن أوسّع المجال. فدرست في معاهد متخصّصة، وأجريت دورات تساعدني أكثر في امتهان الحكواتيّة لأنّ فيها مبادئ يجب إتقانها، كنبرة الصوت والتلوّن الصوتي أثناء سرد الحكاية. وانضممت وشاركت في نشاطات داخل مؤسّسات حكومية وخاصة”.
تونس: هشام درويش
أكّد الحكواتي التونسيّ هشام درويش لـ”أساس” أنّ مشاركته في الدورة الرابعة من المهرجان جاءت للتعريف بالثقافة والتراث التونسيَّين: “حرصت على أن أكون حاضراً لسببين. أوّلاً: التعرّف على لبنان. فهي الزيارة الأولى لي لهذا البلد الذي يشبه تونس. ثانياً: كي أمثّل تونس وأعرّف الحضور على الثقافة التونسية لأنّني خضت المجال البحثي بعد المجال الإبداعي، وأنا الآن في مجال البحث من أجل إعداد رسالة الماجستير في علم التراث التقليدي، وأبحث علميّاً في موضوع الحكاية الشعبية”. ولفت إلى أنّه في تونس تمكّن من تحويل جميع الحكايا التي يرويها إلى لغة الإشارات لـ”الصمّ والبكم” حتى يتمكّنوا من فهمها، “إذ علينا أن لا نهمّش هذه الفئات”.
وتابع: “مشاركتي فيها جانبان: الأول هو الحكاية التي قمت بعرضها في الافتتاح، والثاني هو الندوة الفكرية التي ألقيتها عن “دور الإعلام والإبداع في تثمين التراث الشفوي”، من خلال عرض تجربتي الذاتية والمتواضعة في الإعلام والإبداع”.
اسطنبولي: تعرّف على ثقافة البلدان
أكّد مؤسّس المسرح الوطني الممثّل والمخرج قاسم إسطنبولي أنّ “المهرجان يعيد إلى طرابلس تراثها وهويّتها الثقافية. فهي مدينة الحكواتيين الذين كانوا منتشرين في الأحياء والمقاهي الشعبية، ومشاركة الحكواتيين العرب فرصة للجمهور للتعرّف على ثقافات البلدان العربية من أجل التلاقي والتبادل الثقافي. ويهدف أيضاً إلى الحفاظ على الموروث الشّفويّ والتّراث والهُوِيّة والفنّ الحكواتيّ والعمل على نقله للأجيال، وتبادل تجارب وممارسات تراثيّة مختلفة، ويسلّط الضّوء على أهميّة اللّغة العربيّة الفصحى في الوطن العربيّ والحفاظ عليها وإعادة إحياء فنّ الحكاية الشعبيّة والتراث الشعبيّ ليكون في متناول الأجيال”.