الترسيم: نموذج “للتعميم” في الشرق الأوسط؟

مدة القراءة 8 د

منذ أن أكّد تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأميركية عام 2010 وجود ما يقرب من 122 تريليون متر مكعّب من الغاز غير المكتشف في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل وغزّة وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج، اندفعت دول المنطقة إلى ترتيب أوضاعها بصورة قانونية في ما يتعلّق بترسيم الحدود البحرية وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحارعام 1982، حتى تضمن حصّتها من تلك الثروات التي تقع في نطاق حدودها والتي ستعمل على استغلالها والاستفادة منها، فكان الترسيم فيما بينها سبباً لنشوب النزاعات في تلك المنطقة وتصاعد التوتّرات بين الدول المعنيّة.

 

تطور تاريخي بين لبنان وإسرائيل

“ولأنّ للولايات المتحدة الأميركية مصلحة في أن تكون منطقة الشرق الأوسط أكثر استقراراً وازدهاراً وتكاملاً، مع تقليل أخطار نشوب صراعات جديدة”، اندفعت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى لعب دور الوسيط لحلّ النزاعات على هذه الثروات وسعت إلى التوصّل إلى اتفاقيات بشأن ترسيم الحدود البحرية بين دول المنطقة، ونجحت في تشرين الأول من هذا العام بتحقيق “تطوّر تاريخي وإنجاز دبلوماسي في المنطقة مع إبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل”، كما قال الرئيس الأميركي جو بايدن في بيان له في 11 تشرين الأول 2022.

إذن كانت اتفاقية الترسيم البحري اللبناني الإسرائيلي مثالاً على الوساطة الأميركية الناجحة، لكن هل يمكن تطبيقها على ساحات شرق أوسطية أخرى؟

ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قد يعطي زخماً لتطوّرات إيجابية أخرى، مثل ذوبان الجليد في تطوير حقل الغاز البحري قبالة سواحل قطاع غزة

الترسيم النموذج الأكثر واقعية

رأت كزينيا سفيتلوفا، الباحثة في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، ومديرة برنامج العلاقات بين إسرائيل والشرق الأوسط في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليميةMitvim ، أنّ هذه الاتفاقية “في الواقع الفوضوي للشرق الأوسط المتقلّب، حيث يقوم العديد من الجهات الفاعلة ذات الأجندات المتناقضة بتشكيل السياسة، يمكن أن تكون النموذج الأكثر واقعية ومنالاً لحلّ النزاعات الإقليمية على الأقلّ في الوقت الحالي”، مؤكّدة أنّه “حان اليوم وقت التفكير في تطبيق هذه التجربة في مناطق أخرى من الشرق الأوسط، مثل مصر وقطاع غزّة، بل وإبرام اتفاقات استقرار أخرى على نطاق أصغر في مجال الأمن والاقتصاد”.

واعتبرت سفيتلوفا في حديث إلى موقع المجلس الأطلسي أنّ “اتفاقية الترسيم البحري الإسرائيلي اللبناني، التي أُبرمت في 26 تشرين الأول من هذا العام بعد عقد من المفاوضات الصعبة والإحباطات والمآزق والعديد من الألغام الأرضية السياسية، تشكّل نجاحاً للوسطاء الأميركيين، وانتصاراً لكلّ من لبنان وإسرائيل”.

 

الترسيم كان انتصاراً للبنان

وقالت سفيتلوفا إنّه “على الرغم من أنّ الاتفاقية لا تبشّر بإنقاذ لبنان وخلاصه بشكل سريع على المدى القصير بالنظر إلى أنّ تطوير حقل قانا وبناء البنية التحتية والحفر وإنتاج الغاز هي عملية طويلة الأمد، إلا أنّها تظلّ انتصاراً واضحاً لهذا البلد، ولا سيّما أنّها قلّصت خطر الحرب التي لاحت في الأفق طوال أشهر. ففي حالة اندلاع حرب فعليّة، من غير المرجّح أن ينجو لبنان بسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة والوضع الأمني ??غير المستقرّ والمأزق السياسي. وهي حقيقة أقرّت بها أيضاً جماعة حزب الله اللبنانية المتشدّدة، التي لا تريد الحلول مكان القليل ممّا بقي من الدولة اللبنانية، أو لا تقدر على ذلك، ولا ترغب في تحميلها مسؤولية اندلاع حرب مدمّرة أخرى”.

وأضافت سفيتلوفا أنّ “الاتفاقية ترسي بعض الاستقرار في النظام اللبناني، وتزيل احتمالات نشوب حرب (على المدى القصير على الأقلّ)، وتفتح الباب للاستفادة من مبيعات الغاز، وبالتالي تنير ضوءاً في نهاية النفق المظلم جدّاً الذي يعيش فيه البلد. وأمّا إسرائيل التي تعاني عدم استقرار سياسي مزمناً وتراقب بقلق موجة العنف المتصاعدة في الضفة الغربية وإضعاف السلطة الفلسطينية، فإنّها لن تقلق بشأن التصعيد الفوري على الحدود الشمالية. فعلى الرغم من أنّ الاتفاقية مع لبنان لا تضمن استقراراً طويل الأمد ولا تقلّل بالضرورة من خطر اندلاع حرب بين إسرائيل وحزب الله في المستقبل، غير أنّ إسرائيل بات في إمكانها الآن تطوير حقل غاز كاريش من دون تهديد المسيّرات اللبنانية، وأن تركّز على استقرار الوضع في الضفة الغربية. ومن غير المرجّح إلغاء الصفقة على الرغم من توعّدات بنيامين نتانياهو، وذلك بسبب المخاطر الأمنيّة الكبيرة والخوف من تدمير العلاقات مع الولايات المتحدة”.

ترسّخ الاتفاقية، وفق سفيتلوفا، الدور المحوري لأميركا في منطقة الشرق الأوسط، فإذا سارت الأمور كما هو مخطّط لها، “فإنّ تدفّق الغاز اللبناني إلى أوروبا سيقلّل من اعتماد القارّة على الغاز الروسي. بالإضافة إلى ذلك، سيؤدّي نجاح اتفاقية الولايات المتحدة إلى زيادة الثقة الإقليمية بدور الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة”. وقالت: “بعد زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة في تموز من هذا العام، زعم الفلسطينيون وأنصارهم في الولايات المتحدة أنّ الإدارة الأميركية كانت بطيئة في الترويج لاتفاقية سلام بين الطرفين. من المفهوم أن ينتظر الجانب الفلسطيني خطوات أكثر تصميماً من الإدارة الأميركية، ومع ذلك، وفيما تتّجه إسرائيل اليوم مرّة أخرى إلى الانتخابات وتزداد السلطة الفلسطينية ضعفاً، كان إجراء المفاوضات السياسية والتوصّل إلى الاتفاق السياسي أسهل منالاً من التوصّل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل ولبنان”.

ولفتت إلى أنّه “قد تكون الصفقة الكبرى غير ممكنة، لكنّ الممكن هو إبرام اتفاقات استقرار على نطاق أصغر في مجال الأمن والاقتصاد. فالاتفاقات من هذا النوع تتطلّب جهداً وتفانياً لا يقلّ عن اتفاقيات السلام. ونجحت الولايات المتحدة على الرغم من العقبات الكثيرة والطرق المسدودة بسبب مهاراتها التفاوضية وصبرها وقدرتها على ربط هذه الاتفاقية باتفاقيات أخرى، مثل اتفاقية الغاز مع مصر التي ستسمح بتدفّق الغاز من مصر إلى لبنان عبر سوريا (على الرغم من العقوبات المفروضة على نظام بشار الأسد)”.

استمرار الدور الأميركي ضروري، ففي المستقبل سيتعيّن على الولايات المتحدة وضع آليّة حذرة ودقيقة لضمان عدم وصول الأموال إلى حزب الله أو إيران إذا تم اكتشاف الغاز بالفعل

لكن هل تصلح هذه الاتفاقية نموذجاً لتسوية النزاعات الإقليمية؟

أكّدت سفيتلوفا أنّ “ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قد يعطي زخماً لتطوّرات إيجابية أخرى، مثل ذوبان الجليد في تطوير حقل الغاز البحري قبالة سواحل قطاع غزة. وبالفعل أعلنت مصر استعدادها للعمل من أجل تحقيق هذا الهدف، ومن المناسب تماماً أن تشارك الولايات المتحدة في العملية برمّتها لمنحها ثقلاً إضافياً. إلى ذلك يوجّه الاتفاق البحري الإسرائيلي اللبناني رسالة مهمّة إلى المنطقة فحواها أنّه حتى في الحالات المستحيلة يمكن أن يؤدّي الركود الكامل على المستوى السياسي والتهديد العسكري المتزايد والوساطة المتفانية والمركّزة إلى تحقيق النتائج المرجوّة. وبالتالي من الممكن في الواقع الفوضوي للشرق الأوسط المتقلّب أن يكون هذا النموذج في حلّ المشكلات هو الأكثر واقعية ومنالاً، على الأقلّ في الوقت الحالي”.

 لذلك رأت سفيتلوفا ضرورة أن تُتوَّج الصفقة الإسرائيلية اللبنانية بالنجاح، وألّا تصبح وعداً آخر منكوثاً يستغلّه كلّ طرف ليتصلّب في مواقفه في مرّات مقبلة، إذ على الرغم من الإحساس الواضح بالارتياح لدى جميع الذين أيّدوا الاتفاق في إسرائيل والولايات المتحدة ولبنان، حتى إنّ إلياس بو صعب، نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، حصل على وسام من الرئيس عون لجهوده في تحقيق الاتفاق… وبالتالي ليس هناك شكّ في أنّ نجاح الاتفاقية سيُقاس فقط من خلال أدائها في المستقبل. وإذا استمرّت موجة العنف في الضفة الغربية وتوسّعت، فقد يدفع ذلك المنظمات الفلسطينية التي تعمل عن كثب مع حزب الله إلى الانضمام إلى النزاعات الداخلية مع إسرائيل. فعلى الرغم من أنّ اتفاقية الحدود البحرية لا تمنع حدوث صراع جديد بين الأطراف أو ظهور مظاهر عنف، إلا أنّ مصداقيتها ونجاح الاتفاقيات الأخرى سيتضرّران بشدّة، فضلاً عن القدرة على تنفيذ شروطها وبدء التنقيب عن الغاز في حقل قانا”.

وختمت سفيتلوفا بأنّ “استمرار الدور الأميركي ضروري، ففي المستقبل سيتعيّن على الولايات المتحدة وضع آليّة حذرة ودقيقة لضمان عدم وصول الأموال إلى حزب الله أو إيران إذا تم اكتشاف الغاز بالفعل وبدأت الأرباح تتدفّق إلى إسرائيل. لذا يجب أن تستمرّ الوساطة والمراقبة الأميركيّتان حتّى بعد توقيع الاتفاقية. هذا أمر مهمّ للطرفين الموقّعين وللولايات المتحدة، لأنّ فشل الاتفاقية البحرية يمكن أن يقوّض أيضاً مصداقيتها ونفوذها في المنطقة. يجب عدم رفع القدم عن دوّاسة الوقود: لقد حان الوقت للاستعداد والجهوزية لمواجهة المخرّبين والتفكير في تطبيق هذه التجربة في مناطق أخرى من الشرق الأوسط”.

إقرأ أيضاً: ترسيم حدود لبنان: مقدمة لتحالف إيراني تركي إسرائيلي؟

*كزينيا سفيتلوفا: زميلة أولى غير مقيمة في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، ومديرة برنامج العلاقات بين إسرائيل والشرق الأوسط في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية Mitvim، وهو مركز أبحاث متخصّص في السياسة الخارجية، تأُسّس في عام 2011، وتتمثّل مهمّته في تحسين السياسة الخارجية لإسرائيل، وتعزيز الانتماء الإقليمي لإسرائيل في الشرق الأوسط، وأوروبا، والبحر الأبيض المتوسط، ودفع السلام الإسرائيلي الفلسطيني، كما يوضح المعهد على موقعه.

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

جيروزاليم بوست: جنوب لبنان وصيدا وصور… أراضٍ يهودية

“جنوب لبنان من وجهة نظر تاريخية، هو في الواقع شمال إسرائيل.. وجذور الشعب اليهودي في هذه المنطقة عميقة”. هذا ما يدّعيه نائب مدير الاتّصالات في…

تريليون دولار لعمالقة “وول ستريت”.. بين الرّياض وأبو ظبي

بعدما كان من بين الشخصيات الرئيسية في المؤتمر السنوي لـ”مبادرة مستقبل الاستثمار” في نسخته الثامنة الذي عقد في الرياض في 29 تشرين الأول الفائت، ظهر…

فريدمان لترامب: كانت المرة الأولى أكثر سهولة

العالم هو دائماً أكثر تعقيداً مما يبدو خلال الحملات الانتخابية، وهو اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.. وإذا كان قد تمّ تجاوز الكثير من…

برنامج ترامب منذ 2023: الجمهورية الشعبية الأميركية

“سأحطّم الدولة العميقة، وأزيل الديمقراطيين المارقين… وأعيد السلطة إلى الشعب الأميركي“. هو صوت دونالد ترامب الرئيس 47 للولايات المتحدة الأميركية المنتخب يصدح من مقطع فيديو…