“منتدى الطائف” الذي دعت إليه السفارة السعودية في بيروت، بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لإبرام اتفاق الطائف، فانعقد صبيحة يوم السبت الماضي في قاعة الأونيسكو، لم يكن مجرّد مناسبة دبلوماسية رسمية لإلقاء الكلمات المعدّة سلفاً من بعض روّاد اتفاق الطائف وصانعيه ومؤيديه، استذكاراً لذاك الحدث الفاصل الذي قطع دابر الحرب الأهلية المتطاولة في لبنان. هو كان أكثر من ذلك بكثير. يتبيّن ذلك، من نوع الحضور، وكثافته التي غصّت بها القاعة الكبيرة، وتنوّعه الشديد، وتميّز الكلمات مع قصرها النسبي، وإشاراتها اللمّاحة، والاتجاهات الكامنة في فهم الاتفاق – الميثاق، وكيفية استيلاده أولاً، وطريقة تطبيقه لاحقاً، والمواقف الحقيقية منه ابتداء، والتي تبدّت خلف الكلمات أخيراً، ولو مواربة، وبحنكة عالية.
سفير المملكة العربية السعودية، وليد البخاري، تركّز همّه واهتمامه، في الحفاظ على اتفاق الطائف، من أجل لبنان، لأنه من دون هذا الاتفاق، يدخل لبنان في المجهول
حشد سياسي استثنائي
في الشكل، هو حشد غير مسبوق لمعسكر الطائف على اختلاف توجهاته السياسية والأيديولوجية، بل مواقفه المتعدّدة من الاتفاق نفسه، ومن التعديلات المقترحة عليه. وإذا كان تيار المستقبل بقيادته الرسمية ومحازبيه الذين ما زالوا ينتظرون عودة الزعيم، هو الغائب الأكبر عن المناسبة، لكن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كان الحاضر الأكبر، سواء في الفيلم التعريفي القصير، أم في كلمات صانعي الطائف المشاركين في الحفل. ولهذا، معانيه العميقة.
كان رفيق الحريري حاضراً من دون الحريرية الوارثة له بعد عام 2005. وهنا اجتهد كثر من الإعلاميين والسياسيين في تأويل المشهد، اتجاهاتٍ شتى. فهل دُعي سعد الحريري وأركان فريقه، أم لا؟ ولو دُعي إليه هل كان سيحضر ويشارك؟ ولو حضر كيف كان المشهد سينجلي، سلباً أم إيجاباً؟ وبأيّ اتجاه؟ تلك التساؤلات ليست من قبيل الترف أو المزايدة. بل هي تعبّر عن لحظات توقّف وتأمّل عميقين، لشريط الأحداث بين دمار الحرب الأهلية ومرحلة البناء والتعمير، حيث كان رفيق الحريري، بطل الطائف وإنهاء الحرب، كما صار بطل إعادة البناء بالقدر نفسه.
بغضّ النظر عن أيّ انتقاد لتلك المرحلة، بإيجابياتها الكثيرة وسلبياتها التي لا تخفى، فإن استذكار ذاك الشريط، يثير في النفوس مشاعر أسى وتحسّر، على ما فات وانقضى، وضاع واندثر. كما يستثير كذلك، التفكير والاعتبار، في مآلات ما بعد اغتيال الحريري، وصِنف السياسات والتحالفات والتسويات والصفقات التي انتهجها خلفاء رفيق الحريري في الحكم. هي بحقّ لحظة تأسيسية لمن أراد ورغب في ذلك، بمعنى تصويب المسار السياسي، من خلال العودة إلى الجذور.
هو ثانياً، منتدى حقيقي، للحوار الضمني والعفوي بين وجهات النظر المتباينة حول دقائق النصوص ومنعرجاته اللطيفة، فلم تلحظ الدعوة محاور المنتدى ولا نقاط معيّنة للبحث والنقاش. فأفصحت الإجابات الفورية عن تحفّظات عمومية، وتبريرات لما قيل إنه تنازلات عن صلاحيات كانت قبل الاتفاق لرئيس الجمهورية، بناءً على الظروف القاهرة في لحظات التفاوض في مدينة الطائف خريف عام 1989، إبّان قعقعة السلاح وهدير المدافع في جبهات القتال.
لكن المشاركين في الحوار، على جلستين متعاقبتين، لم يكونوا واعين تماماً لطبيعة اللقاء، أنه حواري فعلاً، وليس احتفائياً، فجلب المشاركون في الجلسة الأولى كلمات مكتوبة، كأن المطلوب منهم فقط، إلقاء كلمة مقتضبة في الذكرى، وتسجيل مواقف للتاريخ، فهم في لحظة حزن على الفقيد، ونحن شهود، والميت هو وثيقة الوفاق الوطني، والدستور، ولبنان. لكنهم فوجئوا بأسئلة الإعلامي وليد عبود، وهي تطرح تساؤلات الساعة عن مآل الاتفاق بعد تجربة 33 عاماً، وعن أسباب الفشل في تطبيقه، وعن المسؤوليات الماضية والراهنة، وعن المخارج والاقتراحات. فجاءت الكلمات شبه ارتجالية، تنضح بما في الضمائر من انطباعات ورؤى حقيقية دون تصنّع.
تميّزت كلمات المشاركين، لا سيما في الجلسة السياسية الأولى، بنوع الهواجس التي حكمت الطوائف عند إبرام الطائف، وما زالت ذيولها تجرجر أذيالها حتى اللحظة
تظهير الهواجس
أما في المضمون، فقد تميّزت كلمات المشاركين، لا سيما في الجلسة السياسية الأولى، بنوع الهواجس التي حكمت الطوائف عند إبرام الطائف، وما زالت ذيولها تجرجر أذيالها حتى اللحظة.
أما سفير المملكة العربية السعودية، وليد البخاري، فتركّز همّه واهتمامه، في الحفاظ على اتفاق الطائف، من أجل لبنان، لأنه من دون هذا الاتفاق، يدخل لبنان في المجهول. وجاء تطمينه عن انعدام النية لدى الفرنسيين في رعاية حوار لبناني لتعديل الاتفاق، بمنزلة تكريس الاتجاه إياه، أي العودة إلى الطائف، والانطلاق منه مجدداً. ولم يستطع الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، إكمال كلمته المكتوبة، والطائف هو إنجازه الأبرز في مسيرته المهنية. فهو ترحّم على من غاب عن هذه الدنيا، ممن كان لهم الدور الأكبر في صناعة الاتفاق، لا سيما الكبيرين رفيق الحريري ووزير الخارجية السابق الأمير سعود الفيصل. فالتاريخ كان همّه الاساسي، وهو موضع التكريم والترحيب لدوره اللافت في وقف حرب بشعة. لكن كان عليه أيضاً أن يجيب عن سؤال محدّد عن أهمية الاتفاق.. هو أوقف الحرب، وأطلق مرحلة بناء الدولة وإعمار الخراب، وأفسح المجال للتطوير مستقبلاً. أما رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، وهو لم يكن في ايّ منصب أو موقع سياسي لحظة إبرام اتفاق الطائف، فرأى أنّ المخرج من أزمتنا هو بانتخاب رئيس للجمهورية، وتطبيق الاتفاق بحسن نية، وعلى نحوٍ صحيح وسليم.
فاجأ الزعيم وليد جنبلاط المشاركين والحاضرين كما مدير المنتدى، الإعلامي وليد عبود، بمطالعته التاريخية الجريئة. فهو انتقد عبود لأنه ألمح في تقديمه للمنتدى إلى دور أمراء الحرب في الانقضاض على اتفاق الطائف، مؤكّداً دوره الحاسم ميدانياً في صناعة الاتفاق، إذ انفرد جيش التحرير الشعبي (قوات الشهيد كمال جنبلاط) بخوض معركة سوق الغرب في 13 آب عام 1989 ضد ألوية الجيش الموالية للعماد ميشال عون. ومع أن الهجوم لم ينجح في السيطرة على التلة الاستراتيجية المعروفة بـ “888”. إلا أن الهجوم الذي خاضه جنبلاط بالتنسيق مع القيادة العسكرية السورية وتحديداً العماد حكمت الشهابي قائد أركان الجيش السوري آنذاك، أدى دوره في وقف إطلاق النار في كل الجبهات، والتمهيد فعلياً لإبرام اتفاق الطائف. فهو هنا أراد حجز مكانه بين صانعي الاتفاق. وركّز كذلك، على تطبيق البنود الإصلاحية للاتفاق، ومنها إنشاء مجلس الشيوخ برئاسة درزي وهو مطلب الهيئة العليا للطائفة الدرزية مع الإشارة إلى عدم قبول أن تخسر الطائفة في السلم بمعزل عما ربحته في الحرب، وهنا يرسّخ دور الدروز ومكانتهم التاريخية. وكذلك انتخاب مجلس نيابي غير طائفي، وتشكيل اللجنة المكلفة دراسة سبل إلغاء الطائفية السياسية. وهو هنا أراد كشف أسباب جمود الاتفاق وتعثره. ولم يخلُ كلام جنبلاط من لمحات تاريخية رمزية. فقبل خمسين سنة، شهدت القاعة نفسها أربعين الزعيم كمال جنبلاط، حيث بدأت حياته السياسية، وفي ذلك إشارة ذكية إلى البدايات والنهايات. كما أنه أقرّ باستهداف اللجنة الثلاثية العربية العليا في مرحلة السعي لوقف الحرب، من خلال قصف فندق البستان، مقرّ إقامتها آنذاك، وجدّد الاعتذار لارتكابه هذا العمل.
مسرة: الرئيس أصبح هو رأس الدولة وهو المشرف على تطبيق الدستور وعلى حسن عمل المؤسسات، فكيف نقول إنه أضحى من دون صلاحيات، والذي يعرف القوانين الدستورية بإمكانه إدراك أهمية دوره في اتفاق الطائف وفي الدستور
بكركي والإسلام
جاء دور المطران بولس مطر ممثّل البطريركية المارونية، في التخلّي عن قراءة الورقة المكتوبة، فاستعاد تجربة الإسلام في مرحلة مبكرة، عندما عقد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، عقداً وعهداً بين المهاجرين (مسلمي مكة) والأنصار (مسلمي يثرب) واليهود، تحت عنوان “الصحيفة”. وفيها يعتبر المسلمين والمؤمنين أمة واحدة. فالهاجس يتبدّى من هذه المقارنة، وهذا الاستشهاد، وهو أن يتعامل المسلمون مع إخوانهم المسيحيين على قاعدة المواطنة. وهو كشف أنّ البطريرك الراحل مار نصر الله صفير قبل باتفاق الطائف بوصفه نقطة انطلاق نحو مرحلة أسمى، وهو تلميح إلى التحفّظ المسيحي الذي لم يغادر المسيحيين على اختلاف أحزابهم واتجاهاتهم منذ ذلك الحين.
الجلسة الثانية، كانت مميّزة باعتبار آخر، وهو أنها ضمّت ثلاثة نواب سابقين كانوا ممن حضّروا الاتفاق في الطائف، وقاموا بصياغته (بطرس حرب وطلال مرعبي وإدمون رزق)، إلى جانب عالم كبير في القانون الدستوري هو الدكتور أنطوان مسرة، والمهندس ورجل الأعمال الدكتور نزار يونس مؤلف كتاب الميثاق أو الانفكاك الطائف ذلك المجهول. حرب أجاب عن سؤال محدّد: هل تنازلتم عن صلاحيات رئيس الجمهورية في الطائف، فقال: في الطائف، اعتمدنا ما كان عُرفاً دستورياً في العلاقة ين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وإذا كنا تنازلنا عن شيء فمن أجل لبنان، ولا من أجل نقل الصلاحيات إلى رئيس الحكومة، بل إلى مجلس الوزراء مجتمعاً.
أما النائب إدمون رزق، فقرأ ورقته البليغة عن معاني الطائف والدستور، فيما تناول النائب السابق طلال المرعبي ظروف عقد الاتفاق وإبرامه والعوائق التي واجهت تطبيقه. الخبير الدستوري أنطوان مسرة كان حاسماً من وجهة نظر علمية، وبالمقارنة مع دساتير بلدان أخرى، فرأى أنه في الاتفاق تظهر عبقرية المشرّع اللبناني، مورداً بعض الأمثلة مثل المادة 65 التي تحدّد صلاحيات مجلس الوزراء، ومثل المادة 95 التي تنص على المسار العملي لإلغاء الطائفية السياسية.
إقرأ أيضاً: مؤتمر الطائف: الشيعة “اللبنانيّون”… كانوا في الأونيسكو
بشأن صلاحيات رئيس الجمهورية، أكد مسرة أنّ “الرئيس أصبح هو رأس الدولة وهو المشرف على تطبيق الدستور وعلى حسن عمل المؤسسات، فكيف نقول إنه أضحى من دون صلاحيات، والذي يعرف القوانين الدستورية بإمكانه إدراك أهمية دوره في اتفاق الطائف وفي الدستور”.
وقال الدكتور نزار يونس إن الطائف تعثّر بسبب عدم حصرية استعمال السلاح داخل الاراضي اللنانية، ووجود السلاح غير الشرعي. وإن الدستور ليس مقدساً ويمكن تعديل بعض مواده حيث تبرز نواقص أو ثغرات.