شكّل المؤتمر الذي نظّمته سفارة المملكة العربية السعودية في الذكرى 33 لإبرام “وثيقة الوفاق الوطني” حدثًا سياسيًا استثنائيًا وحتّى مفصليًّا في مسار الأزمة اللبنانية. وتتمثّل استثنائيّته ومفصليّته في جمعه ثلاث شرعيّات لـ “اتفاق الطائف”:
– الشرعية العربية برعاية وتنظيم السفارة السعودية.
– الشرعية الدولية من خلال موقفَيْ فرنسا والأمم المتحدة اللذين وردا على لسان كلّ من السفير السعودي وليد البخاري الذي كشف عن تأكيد باريس عدم وجود أيّ نيّة لتغيير “الطائف”، والمنسّقة الخاصة للأمم المتحدة يوانّا فرونتسكا التي أكّدت أهمّية الاتفاق للّبنانيين وذكّرت بمطالبة القرار 1701 بتطبيقه.
– الشرعية اللبنانية من خلال الطيف السياسي المتنوّع الذي شارك في المؤتمر، ما أظهر “إجماعًا” لبنانيًا على “الطائف”، إن لم يكن بالرضا الكامل فبعدم القدرة على رفضه بالمطلق، والأهمّ بعدم القدرة على صوغ اتفاق بديل.
يمكن الاستطراد لطرح سؤال تشكيكيّ حول مدى قدرة الطبقة السياسية اللبنانية على تشكيل رافعة سياسية وشعبية لبنانية للاتفاق، بعد انكشاف هذه الطبقة، أقلّه منذ 17 تشرين 2019؟ وهذا ما ذكّر به رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط خلال المؤتمر برفضه مقولة “كلّن يعني كلّن”. لكنّ الطريقة التي سلّم بها جنبلاط على الرئيس فؤاد السنيورة في المؤتمر دلّت على أزمة هذه الطبقة التي تنعدم الثقة بين أفرقائها، حتّى بين من يجمعهم توجه سياسي عامّ مشترك، كحال جنبلاط والسنيورة، أقلّه لناحية تأييدهما “الطائف”.
الأطراف المناوئة للحزب تعيد مرّة جديدة إنتاج مقولة إنّ سلاح الحزب مسألة إقليمية، كما قال الرئيس سعد الحريري في تبرير التسوية مع الرئيس السابق ميشال عون
لكنّ 17 تشرين لم تنتج واقعًا سياسيًا جديدًا، أو هي لم توفّر العناصر السياسية والشعبية التي يمكن الركون إليها للقول إنّه يمكن الآن إسقاط النظام الطائفي في لبنان والعبور إلى نظام “علماني” للجمهورية اللبنانية. بالتالي يكتسب “اتفاق الطائف” أهميّته الأساسيّة، لا من تأييد الطبقة السياسيّة له، بل من كونِه يشكّل مظلّة حماية عربية ودولية للشعب اللبناني من مغامرات هذه الطبقة نفسها وعلى رأسها حزب الله الذي عزل نفسه عن الواقع التاريخي للبنان الذي يمثلّه “اتفاق الطائف”، وفي الوقت نفسه لا يملك القدرة على خلق واقع مغاير يحظى بإجماع اللبنانيين، خصوصًا أنّه حزب ذو أيديولوجيا تعبوية مذهبية في بلد متعدّد الأديان والمذاهب.
تسوية أم صراع؟
تتجسّد استثنائيّته ومفصليّة المؤتمر أيضًا في أنّه يحثّ على طرح سؤال أساسيّ هو: هل لبنان مقبل على صراع أم على تسوية؟
طبعًا، لا يمكن الإجابة على هذا السؤال باستخدام معطيات لبنانية بحتة. فالأزمة اللبنانية ليست مفصولة عن أزمة المنطقة. لذلك شروط تسويتها إقليمية ودولية وليست لبنانية فحسب. وهذا واقع معقّد جدًّا نظرًا إلى تعقيدات اللحظة الإقليمية والدولية التي تفيض بالتحوّلات والمتغيّرات على وقع الاستقطاب الدولي الجديد الذي خلقته الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعياتها على علاقات الدول والتحالفات الإقليمية والدولية. وهي متغيّرات لا تمنع بالضرورة إنتاج تسوية لبنانية، بل بالعكس يمكن أن تكون محفّزة لها. لكنّها متغيّرات من الصعب التكهّن بمآلاتها، وهو ما يجعل من الصعب توقّع أوان التسوية اللبنانية وطبيعتها.
هذا يحيلنا إلى اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل الذي كان التوصّل إليه مدفوعًا إلى حدّ بعيد بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أيّ حدّ يشكّل هذا الاتفاق ركيزة للتسوية اللبنانية الشاملة؟ أو بصيغة أخرى: هل يشكّل هذا الاتفاق الحلقة الأولى من التسوية الكبرى المرتبطة بلبنان؟
أيًّا يكن الأمر فإنّ الإجابات على هذه الأسئلة مفتوحة على احتمالات عدّة في ضوء الواقع الإقليمي والدولي المتحرّك الذي لا يخلو من ملامح تسويات، سواء في المنطقة أو على المستوى الدولي. حتّى إنّ إشارات التصعيد بين الدول الإقليمية، ولا سيّما بين إيران والسعودية، وخصوصًا في ظل موجة الاحتجاجات المتواصلة في الجمهورية الإسلامية والتهديدات الإيرانية بضرب المنشآت النفطية السعودية، وغياب الحوار الإيراني السعودي في “بغداد الكاظمي”، لم تطرح جانبًا إمكانات الحوار والتسوية بينهما، لأنّ هذين الحوار والتسوية مرتبطان أصلًا بخريطة التحالفات الإقليمية والدولية المتغيّرة وليس بمسار العلاقات، سلبًا أو إيجابًا، بين المملكة وإيران فحسب.
تحييد سلاح الحزب إياه عن الخطاب والنقاش في الداخل اللبناني مرتبط أساسًا بأجندات الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، وبالأخصّ المناوئين لحزب الله، وليس باستراتيجية السعودية الكليّة للمنطقة
خذلان الطبقة السياسيّة
يبقى سؤال عن كيفيّة تعاطي الأفرقاء اللبنانيين مع المشهد الإقليمي والدولي الجديد، وبالتحديد مع احتمالات التسوية الجديدة بشأن لبنان. فإذا ما استعدنا خطاب السياسيين اللبنانيين في ذكرى “مؤتمر الطائف” نجد أنّ أيًّا منهم لم يتناول مسألة سلاح “حزب الله”. وهو ما ردّه البعض إلى رغبة سعودية في عدم التطرّق إلى هذه المسألة ربطًا بأولويّات إدارة المملكة صراعها مع إيران التي لا تنحصر بلبنان. وهذا كلامٌ يحتاج إلى تدقيق، خصوصًا أنّ تحييد قضية سلاح حزب الله عن الخطاب السياسي لم يبدأ في المؤتمر، بل هو سابقٌ عليه وأسبابه لا علاقة لها باستراتيجيات السعودية التي تمتلك كدولة إقليمية كبرى خطابها وأدواتها الخاصّة في التعامل مع المسألة الإيرانية في المنطقة. لكنّ ذلك لا يتعارض بطبيعة الحال مع ضرورة وجود خطاب سياسي لبناني حيال المسألة الإيرانية في لبنان التي يجسّدها حزب الله.
وبالتالي فإنّ تحييد سلاح الحزب إياه عن الخطاب والنقاش في الداخل اللبناني مرتبط أساسًا بأجندات الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، وبالأخصّ المناوئين لحزب الله، وليس باستراتيجية السعودية الكليّة للمنطقة. فهؤلاء الأفرقاء ينتظرون التسوية لتقاسم السلطة مع الحزب، لكن بشروطه هو، من دون أن يكون لديهم أيّ استعداد لتحسين شروط الدولة من خلال إظهار تناقضات منطقها مع منطق الحزب المسلح. حتّى إنّ هجومهم على حلفاء الحزب، وفي مقدَّمهم “التيار الوطني الحر”، يندرج في إطار تصفية الحسابات السياسية الطائفية ضمن النظام لا في إطار إضعاف حزب الله عبر إضعاف حلفائه. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه في كلمة جنبلاط في ذكرى “مؤتمر الطائف”.
إقرأ أيضاً: لماذا عاد الطائف من إغماءاته
الأطراف المناوئة للحزب تعيد مرّة جديدة إنتاج مقولة إنّ سلاح الحزب مسألة إقليمية، كما قال الرئيس سعد الحريري في تبرير التسوية مع الرئيس السابق ميشال عون. وهي تسوية سرعان ما فُضِحت كلّ مبرّراتها لأنّها قامت على موازين قوى مختلّة. وهذا ما سيتكرّر الآن مع أيّ تسوية تتجاوز في مضامينها استحالة تجاوز مشكلة حزب الله. ويتمثل لبّ الأزمة اللبنانية في انعدام القدرة على إنتاج حلّ للأزمة من دون حزب الله. لكن في الوقت نفسه سيُنتج أيُّ حلّ مع الحزب بشروط الحزب أزمةً جديدة. وهنا ليس المطلوب معجزة، ولا معجزات في السياسة، لكن لا يمكن للأفرقاء السياسيين المناوئين لحزب الله القبول بشروطه للتسوية التي لا تعود تسوية، والادّعاء أنّ في إمكانهم استكمال تطبيق “اتفاق الطائف”. وهذا ما دلّت عليه بقوّة التسوية الرئاسية الأخيرة. هذه هي الحلقة المفرغة التي يدور فيها لبنان منذ سنوات طويلة، والتي لم تستطع انتفاضة 17 تشرين الشعبية كسرها لإنتاج واقع سياسي بديل، فانكسرت هي أمام هجمات أركان النظام، وعلى رأسهم حزب الله، وأمام اغتراب نخبها عن السياسة!