الاستراتيجية الدفاعيّة الوطنيّة(8): التنازل عن المكتسبات لحماية السلاح

مدة القراءة 7 د

ينطوي مع توقيع وثيقة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل فصلٌ من فصول لعبة الأمم على الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. هذا الترسيم الذي أملته ظروف دولية وإقليمية في سياق مخاض عسير قد يؤدّي إلى ولادة عالم متعدّد الأقطاب، يبدو أنّه استوجب تبديل قواعد الاشتباك المعمول بها على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة مذ نفّذت إسرائيل انسحابها من الجنوب في العام 2000، لكن من دون ضرورة تبديل اللاعبين أو إقصائهم. وبمعنى أدقّ فإنّ المعادلة الإيرانية – الإسرائيلية التي أُرسيَت على الحدود برعاية أميركية بعد الانسحاب من دون أيّة ترتيبات مع الدولة اللبنانية لنشر الجيش، والتي طُورت بعد العام 2006 بموجب القرار 1701، لم تكن سوى انعكاس لمعادلة نفوذ جديدة شاءت الولايات المتّحدة استحداثها في المشرق العربي، عمادها الجمهورية الإسلامية في إيران وشعارها المُعلَن تصدير الثورة وتحرير فلسطين. وفي هذا الإطار لا يمكن قراءة التزامن بين تطوّر النفوذ الإيراني في كلّ من لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000، وفي العراق بعد العام 2003، ولاحقاً في سوريا واليمن، إلا من قبيل الرهان الأميركي على توظيف المكوّن الجديد في تهديد استقرار المنطقة وأمن دولها.

 

التحرير والتخوين

أما الالتباس في إطلاق تسمية مناسبة على وثيقة الترسيم بين لبنان وإسرائيل، والارتباك في اعتماد إجراءات توقيعها، فمردّهما إلى عدم قدرة السلطة اللبنانية المفاوِضة، ممثّلةً بالرئيس نبيه بري عرّاب مشروع اتّفاق الإطار ورئيس الجمهورية ميشال عون المجاهر بالتنازل عن الخط 29، على التكيّف مع الواقع الجديد، الذي يبدو وكأنّهما دُفعا إليه رغم إرادتهما ومن دون القدرة على رفضه. فالسلطة غير قادرة على الدفاع عن اتّفاق لا تتحكّم بمفاعيله التنفيذية أو بوضع جدول زمني لها أمام اللبنانيين. هذا إضافة إلى عدم قدرتها على توصيف موقفها الجديد من إسرائيل. وهل مواصفات الممانعة التي ادّعتها ما زالت تتلاءم مع الوضع المستجدّ؟

لم يتقبّل حزب الله يوماً أن تُطرح مسألة سلاحه للنقاش، وهو الذي قَبِل مرغماً المشاركة في طاولة الحوار التي طرحت النقاش في استراتيجية دفاعية وطنية في العام 2006

بدوره حزب الله الذي وقف خلف الرئيس عون محفّزاً على الاتّفاق وأعلن ثقته المطلقة بكلّ ما يقرّره، لا يبدو قادراً على تطويع اللبنانيين وإقناعهم بسرديّة انتزاعه الاتّفاق رغم أنف العدو وبدور صواريخه ومسيّراته في إنجاز ذلك.

إنّ محاولة أخذ اللبنانيين إلى دور جديد لحزب الله في إقرار الصندوق السيادي وضمان العائدات المالية للغاز المستخرَج بعد آجال غير محدّدة، لا يمكنها أن تقنع حتى جمهور الحزب عينه بأنّ خطابات التحرير السامية واتّهامات التخوين التي سيقت بحقّ كلّ من دعا إلى تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بالوسائل الدبلوماسية، لم تكن سوى خديعة لوضع اليد على الدولة وإنهاك اقتصادها ومصادرة سيادتها لصالح أيديولوجية مذهبية توارت خلف دور وطني وثبت كذب ادّعائها. وسيكون متعذّراً على حزب الله إقناع اللبنانيين بأنّ الترسيم انتصار إلهيّ جديد يُضاف الى انتصار العام 2006، وسيتعذّر عليه الملاءمة أو الجمع بين استمرار وظيفة التحرير المدّعاة من قبله ومضمون الاتّفاقية التي كرَّست تنازل لبنان عن جزء من حقوقه البحرية.

 

ما دور السلاح؟

لا يمكن لحزب الله الاعتراف بحقوق إسرائيل في التنقيب والاستخراج، والالتزام بتحقيق استقرار وأمن الحدود الجديدة المعلَنة، وفي الوقت عينه التمسّك بخطاب مزمن ارتكز على سرديّة مذهبية مقدّسة وضعها في خدمة حربه المفتوحة على العدوّ الإسرائيلي وجعل منها نموذجاً يُحتذى في الجهاد والشهادة لتحرير فلسطين. إن التساؤل الذي يفرض نفسه ههنا: هو كيف يمكن للدبلوماسية أن تكون أداةً للتنازل عن الحقوق الوطنية وإسقاط القضية بأبعادها الجهاديّة والعقائديّة المقدّسة ولا يتاح لها أن تكون أداةً للمطالبة بالحقوق المشروعة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا؟ هذا دون أن ننسى تعنّت النظام السوري وعدم اعترافه بلبنانيّتها. وفي هذا الإطار تُطرح بقوّة إشكاليّة السلاح وجدواه ودوره ومبرّر وجوده بعد هذا التنازل المجّاني، وتُطرح معها استدامة الثقة بحامله وبصدقيّة خطابه وثباته. فهل يحمل حزب الله السلاح لتثبيت خطوط النزاع ريثما يحين توقيت التسوية المطلوبة أميركياً؟

لم يعد من شكّ في أنّ اتّفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل هو بداية لمرحلة لم تتّضح معالمها بعد لإعادة هندسة خريطة النفوذ في المنطقة

لم يتقبّل حزب الله يوماً أن تُطرح مسألة سلاحه للنقاش، وهو الذي قَبِل مرغماً المشاركة في طاولة الحوار التي طرحت النقاش في استراتيجية دفاعية وطنية في العام 2006 بحكم التبدّل في ميزان القوى الناجم عن انسحاب الجيش السوري من لبنان استناداً إلى القرار 1559، لكنّه ما لبث أن تنصّل من أيّ حوار يتعلّق بسلاحه بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006. لقد استند حزب الله في معرض تمسّكه بالسلاح إلى مرتكزَيْن اثنين:

– أوّلهما، قدسيّة السلاح وارتباطه العقائدي بالجمهورية الإسلامية وبخدمة الوليّ الفقيه، إذ قال نصرالله في إطلالة تلفزيونية في العام 2009: “أنا أفتخر أن أكون جنديّاً في حزب ولاية الفقيه، وولاية الفقيه أن نأتي ونقول: قيادتنا وإرادتنا وولاية أمرنا وقرار حربنا وسِلمنا هي بيد الوليّ الفقيه”، وأضاف في 16 حزيران 2020 أنّ “سلاح المقاومة بالنسبة إلى بيئة المقاومة هو جزء من ثقافة وعقيدة استراتيجية وأعمق بكثير ممّا يطرحه البعض”.

– ثانيهما، العداء المطلق لإسرائيل والتشكيك في مواقف الفرقاء المشاركين في طاولة الحوار من العدو الإسرائيلي، وفي قدرة الدولة على المواجهة، إذ توجّه في حينه إلى قادة الأحزاب وممثّلي الكتل النيابية في جلسة الحوار التي عُقدت في العام 2006: “إذا كان الإخوة الجالسون إلى طاولة الحوار يسلّمون أنّ إسرائيل عدوّ فيمكن استكمال النقاش، أمّا إذا افترضنا أنّ إسرائيل ليست عدوّاً فنحن نضيّع وقتنا وليس هناك تهديد ولا دفاع ولا حماية”. وأضاف: “هناك استحالتان: الأولى استحالة بناء جيش وطني قادر على الدفاع عن لبنان، والثانية استحالة الاستغناء عن المقاومة قبل بناء جيش قوي”.

إنّ تراتبية هذين المرتكزين ضمن إطار التحرير الذي يدّعيه حزب الله كافية لنسف نظريّة أولويّة العداء لإسرائيل. فالأوّل عقائدي مقدّس لا يمكن تجاوزه، والثاني وظيفي يخدم المرتكز الأوّل ويتغيّر وفقاً لإرادة الوليّ الفقيه. من هنا يمكن فهم حقيقة مقاربة حزب الله لمسألة الترسيم وانتظامها في خدمة أولويّة المصلحة الاستراتيجية لجمهورية الوليّ الفقيه على حساب المصالح الوطنية للبنان، ويصبح التزام حزب الله بوضع سلاحه في خدمة الاتّفاق جزءاً من مصلحة طهران كما يراها الوليّ الفقيه، ويصبح ضمان مصالح إسرائيل الاقتصادية بنداً ملزماً. هذا ويسجّل الفصل بين ترسيم الحدود البرّية والحدود البحريّة سابقة يتفرّد بها الحزب إذا ما اقتضت مصلحة طهران ذلك.

إقرأ أيضاً: ثلاث استحالات لا تبني استراتيجية دفاعيّة

لم يعد من شكّ في أنّ اتّفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل هو بداية لمرحلة لم تتّضح معالمها بعد لإعادة هندسة خريطة النفوذ في المنطقة، وليس نهاية لمفاوضات تُفتَتح معها آفاق اقتصادية للبنان بعد تنازلات قُدّمت من مكتسبات الشعب اللبناني وثروته الطبيعية. وربّما يصبح الترسيم مدخلاً لتطبيع تقتضيه لعبة الأمم بين الدولة اللبنانية والنفوذ الإيراني الذي تسلّل إلى كلّ مفاصلها، ويعبّر عنه كلّ يوم أداء مسؤوليها ومؤسّساتها في الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومات وفي الإدارة والتشريع والأمن والقضاء وسواها، وتصبح الاستراتيجية الدفاعية الوطنية في كنف الترسيم البحري بنداً على طاولة الوليّ الفقيه ورهن إشارته.

 

*  مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

إيلي صعب.. إيلون ماسك والمرشد

كان يمكن لمحاولات إيران التهدئة مع الولايات المتحدة، عبر تقارير عن مفاوضات بين سفيرها في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني ‏والملياردير الأميركي إيلون ماسك (نفتها…

المعارضة تستعين بالمماطلة لتعطيل ترامب؟

الفوز الكبير الذي حقّقه دونالد ترامب والحزب الجمهوري في انتخابات مجلسَي النواب والشيوخ، زاد من قناعة الرئيس المنتخب بأنّ الشعب الأميركي منحه تفويضاً لقيادة البلاد…

واشنطن وطهران: إدارة صراع أم صفقة؟

لم يكن الموقف الإيراني من انتخاب الرئيس الأميركي الجديد – القديم دونالد ترمب موقفاً سلبياً بالكامل، ولم يكن في الوقت نفسه إيجابياً أيضاً. فالحذر الشديد…

أسرار تسميات ترامب: مصيرنا بيد إيلون ماسك

يرسم المتابعون والعارفون بعقل دونالد ترامب في واشنطن صورة واضحة لما يفكّر فيه الرجل، وما سيقوم به، خصوصاً بما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط.   يعترفون…