تنتظر مدينة طرابلس الجولة الثانية من نتائج الطعون الانتخابية، التي يفترض أنْ تحسم نتيجة أحد أبرز الطعون، المقدَّم من النائب السابق فيصل كرامي، والذي لم يكد يُعلَن عنه حتى كثُرت الشائعات والتسريبات التي تتحدّث عن فوزه بالمقعد على حساب النائب التغييري رامي فنج.
بلغت الأمور ذروتها عشيّة إصدار نتائج الجولة الأولى، إذ بدا فوز كرامي وكأنّه من المسلّمات، فتجمّع بعض أنصاره استعداداً للاحتفال، مقابل ردّة فعل توحي باستشعار فنج بالهزيمة. بيد أنّ ذلك لا يعني أبداً أنّ المقعد بات في جيب كرامي، ولنا في نتيجة الطعن بحقّ النائب فراس حمدان عبرة وآية، على الرغم من أنّه مقدَّم من قبل لائحة عرّابها الرئيس نبيه برّي وحزب الله.
لأنّ طرابلس تعيش حالة من الخواء السياسي، كانت الفرصة مؤاتية جدّاً لفنج لتثبيت حضوره بقوّة على الساحة السياسية، بما يجعل منه ومن قوى الثورة ركناً سياسياً أساسياً حتى ولو فقد مقعده
خلط الأوراق
ليس الطعن “الكراميّ” محصوراً بين نتيجتين فقط: إمّا ردّه من المجلس الدستوري، أو إعلان فوز مقدِّمه بالمقعد على حساب فنج. فثمّة احتمال أنْ يكون القرار هو إجراء انتخابات فرعيّة، في تكرار لِما حصل في طرابلس عام 2018.
هذا الطعن مبنيّ على أحقيّة لائحة كرامي بالحصول على حاصل ثالث، كان يفصلها عنه عدد ضئيل جدّاً من الأصوات، وهذا الحاصل آل إلى لائحة “التغيير الحقيقي” ففاز فراس السلّوم بالمقعد العلويّ.
لذا سيؤدي إعلان فوز كرامي إلى تبديلين اثنين: خسارة السلّوم مقعده بخسارة لائحته الحاصل، وخسارة فنج مقعده لأنّ عدد أصوات كرامي التفضيلية يفوق ما حصل عليه، لكنّ الحاصل سيبقى للائحة “انتفض.. للسيادة للعدالة”، ويذهب إلى المرشّح العلوي حيدر ناصر.
وفي حال قرّر الدستوري اعتماد خيار الانتخابات الفرعية، فإنّها ستُجرى وفق النظام الأكثري إذا حُصر إبطال النيابة بالسلّوم وفنج. لكنّ سيف الإبطال قد يطال مقعد النائب إيهاب مطر، ولا سيّما بعد ما ذكره الصحافي هادي الأمين في تغريدة له عن استماع المجلس الدستوري لشهادته في قضيّة الرشى التي أثارتها قناة “الجديد” بحقّ مطر. عندئذٍ يصبح عدد المقاعد ثلاثة، وفي هذه الحال يفرض القانون الانتخابي المعتمَد أنْ تجري الإعادة وفق النظام النسبي.
بيد أنّ السؤال الذي يطرح نفسه في حال كان القرار إعادة الانتخابات، سواء بالأكثري أو النسبي: ألا تزال موجة التعاطف مع قوى الثورة، التي كانت العامل الأبرز في ترجيح فوزها بعدد من المقاعد، هي نفسها كما كانت زمن الحملات الانتخابية؟
أداء مخيِّب
مع أنّه لا يمكن التكهّن سلفاً بنتيجة الانتخابات في حال أقرّ المجلس الدستوري إجراءها، ولا سيّما بعدما أصابت نتائج الانتخابات الأخيرة الدراسات والإحصاءات في مقتل، إلّا أنّ المؤشّرات تشي بحراجة وضع قوى الثورة.
فهناك حالة من السخط الشعبي العامّ على أداء نوّاب التغيير واضحة وجليّة، وهي في تصاعد مطّرد، خاصّة في الأيام الأخيرة على وقع الخلافات التي ضربت تكتّلهم وأدّت إلى تصدّعه.
تبدو كفّة كرامي هي الأرجح في حال تقرّر إجراء انتخابات. فهو وإنْ لم يتقدّم في رصيد أصواته على ما حصل عليه عام 2018 مثلما كان يأمل، فقد حافظ على كتلة ناخبيه
تبدو حالة السخط هذه أقوى وأكثر حدّة في طرابلس، مع تفاقم الأزمات التي تعصف بها، ولا سيّما غياب الكهرباء تماماً ومعها المياه، وظهور شبح “الكوليرا” بعدما سبقه “اليرقان”. زد عليها التوتّرات شبه اليومية في شوارع المدينة لتوافه الأسباب.
دفع كلّ ذلك أبناء طرابلس إلى التصويب على نوّاب مدينتهم، وفي طليعتهم فنج، الذي كانوا يعوّلون عليه كثيراً لتقديم نموذج برلماني جديد مختلف تماماً عن أسلافه. بيد أنّه خيّب آمال الطرابلسيين حسبما يظهر من ردود الفعل. فلم تكد الاحتفالات بفوزه تنتهي حتّى توارى عن الأنظار.
وخلال ستّة أشهر من العمل البرلماني، اقتصر حضوره “على الهامش” في تكتّل التغييريّين، مع بعض الإطلالات الإعلامية المرتبكة، وظهور متقطّع عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تُظهر ضعف تفاعل الناس معه. أمّا على صعيد الموقف السياسي، فلا يذكر له الطرابلسيون سوى عدم تبنّيه قضايا جدالية مثل الزواج المدني وحقوق المثليّين.
فرصة ضائعة
لأنّ طرابلس تعيش حالة من الخواء السياسي، كانت الفرصة مؤاتية جدّاً لفنج لتثبيت حضوره بقوّة على الساحة السياسية، بما يجعل منه ومن قوى الثورة ركناً سياسياً أساسياً حتى ولو فقد مقعده. لكنّه لم يحسن استغلال الفرصة، وحتى الائتلاف الثوري الذي خاض معه الانتخابات ندُرت اجتماعاته مع أعضائه، ولم يعد اسم “انتفض” متداولاً وكأنّه قرّر شطب نفسه بنفسه.
وإذا ما قارنّا حضور فنج بأحد وجوه التغيير في عكار، وهو خالد بدرة، الذي لم يحالفه الحظ في الانتخابات الأخيرة، نجد أنّ الفرق بينهما شاسع. فالأخير لم ينقطع عن التفاعل السياسي مع الناس رغم كونه خارج البلاد، وأحسن استخدام الأداة الوحيدة المتاحة له، وهي حساباته على مواقع التواصل لتقديم آرائه وأفكاره.
يصبح الحال أكثر سوءاً عند مقارنته بنوّاب تكتّل الاعتدال “التقليديّين”، الذين يقومون بنشاط بارز لترسيخ حضورهم في الساحة السياسية، محاولين التغلّب على التنميط المزمن لنوّاب عكّار والأرياف الذي يضعهم على هامش الحياة السياسية. ربّما بالغ فنج بارتمائه في أحضان تكتّل التغييريّين، على حساب دوره وحضوره الطرابلسيين، ظنّاً منه أنّهم سيكونون سنداً له في قضية الطعن، لكنّ ذلك يبدو صعباً مع كثرة الخلافات بينهم.
إقرأ أيضاً: استهداف الطائف .. السُنّة خارج السياسة
في المقابل، تبدو كفّة كرامي هي الأرجح في حال تقرّر إجراء انتخابات. فهو وإنْ لم يتقدّم في رصيد أصواته على ما حصل عليه عام 2018 مثلما كان يأمل، فقد حافظ على كتلة ناخبيه. وهذا الرصيد قابلٌ للزيادة إذا ما دعمه حلفاؤه، وبخاصّة جمعية المشاريع. ما يعاني منه فنج ينسحب على قوى التغيير، التي لو حافظت على الزخم الذي تميّزت به في الفترة السابقة للحملات الانتخابية لا خلال الحملات فقط، لَما كانت تعاني من الانفصال عن جمهورها وناخبيها. وربّما يُفاجأون برد فعل الناس على قرار إبطال نيابة أحدهم أو إحداهنّ، التي قد تراوح بين التقبّل وعدم الاكتراث.