وجّه الرئيس بشّار الأسد صفعة مدوّية إلى خدّ رئيس الجمهورية ميشال عون، صفعة أصابت “طراطيشها” الثنائي الشيعي، وتحديداً حارة حريك، تذكيراً بـ”وحدة المسار والمصير” و”تلازم المسارين”، ذلك التلازم الذي ضرب به حزب الله والرئيس عون عرض الحائط في “التفاوض” مع إسرائيل، بعدما كان التفاوض أيّام “سوريا الأسد” القويّة يمرّ، أو يبدأ وينتهي، في الشام، فيما تتفرّج بيروت تحت سقف: “نحن آخر الموقّعين”، و”سوريا هي التي تقرّر”.
في ظلّ هذا العقل الأسديّ المريض بوهم السيطرة على لبنان، في حين لا يسيطر على ربع دمشق، اتّصل الرئيس عون بالأسد وطلب منه ترسيم الحدود البحرية. وفي الاتصال بدا الأسد “آخر من يعلم”، وكأنّه ينفّذ أوامر جبران باسيل “بعد شوي”.
كان عون قد وعدَ الجانب السّوريّ قبل انتخابه في 2016 أن يزورَ دمشق بعد انتخابه رئيساً، لكنّه استمهل السّوريين لزيارة العاصمة السّعوديّة الرّياض، ولم يزُر دمشق أبداً
ظنّ عون أنّه سيبدأ رحلة ترسيم الحدود شمالاً. لم يكن يعرف أنّها رحلةٌ لن تكون سهلةً على الإطلاق، وأنّ طريق بيروت – دمشق مزروعة بألغام التاريخ والجغرافيا. سريعاً انفجَر أوّل لغمٍ على توقيت عاصمة الأمويين، وراح ضحيّته وفد الترسيم كلّه، ومن بينه “دولة الرئيس” الياس بو صعب، وسعادة المدير العامّ للأمن العامّ اللواء عباس إبراهيم. إذ رفض الجانب السّوريّ إعلان لبنان من “جانبٍ واحدٍ” أنّ وفداً رسميّاً سيزور سوريا الأربعاء لمناقشة ترسيم الحدود. هذا في الشكل، أمّا في المضمون فيختصرُ مصدرٌ لبنانيّ مُطّلع على أجواء سوريا أسباب الرّفض والمُماطلة بالأسباب الآتية:
أوّلاً: أعطت دمشق إشارة للبنان أنّ العقلَ السّوريّ لا يزال ينظر إلى بلاد الأرز كـ”خطأ تاريخيّ”، ولا يستطيع السّوريّون أن يتقبّلوا فكرة التّفاوض مع “المُحافظة 15″، باعتبارها كياناً مُستقلّاً ذا سيادة.
ثانياً: انطلاقاً من النّظرة السّوريّة، التي كان الرّئيس السّوريّ الرّاحل حافظ الأسد قد اختصرها بالعبارتَيْن الشّهيرتيْن: “وحدة المسار والمصير” و”شعب واحد في دولتَيْن”، تنظر دمشق بعيْن الرّيبة إلى توجّه لبنان إلى حسم مُفاوضات الحدود البحريّة مع إسرائيل من دون أيّ اعتبار للجانب السّوريّ، الذي طالما اعتبرَ لبنان جزءاً من التفاوض الغربيّ مع قصر المُهاجرين.
يدخُل في هذا الإطار أيضاً امتعاض دوائر القرار السّوريّة من الإعلان اللبنانيّ لموعد الزّيارة من دون أيّ اعتبارٍ للبروتوكول مع الجانب السّوريّ، الذي ينبغي أن يُحدّدَ الموعد وليسَ لبنان.
ثالثاً: لا ينظر السّوريّون بارتياح إلى اتصال الرّئيس ميشال عون بنظيره السّوريّ بشّار الأسد قبل أيّام قليلة من نهاية عهده. كان عون قد وعدَ الجانب السّوريّ قبل انتخابه في 2016 أن يزورَ دمشق بعد انتخابه رئيساً، لكنّه استمهل السّوريين لزيارة العاصمة السّعوديّة الرّياض، ولم يزُر دمشق أبداً.
يستغرب المصدر أن يُقدِمَ عون على هذا الطّلب من الأسد، ويسأل: هل يتوقّع عون أن يعطيه الأسد ورقةً سياسيّة رابحة وهو يهمّ بالخروج من قصر بعبدا، وهو الذي لم يَفِ بوعده له؟
رابعاً: لا تخرج عن هذا الإطار العلاقة الشّخصيّة المتينة التي تجمع الرّئيس السّوريّ بالوزير السّابق سليمان فرنجيّة. من هذا المُنطلق، لن يُقدّم الأسد ورقةً لعون، ومن خلفه جبران باسيل الذي سعى ويسعى إلى إزاحة فرنجيّة من السّباق الرّئاسيّ. ويدخل أيضاً في هذا الإطار عدم تلقّف الأسد طلبات باسيل للقائه طوال الفترة التي سبقَت الانتخابات النّيابيّة الأخيرة.
خامساً: ينتظر السّوريّون معرفة المُستوى الدّبلوماسيّ للسّفير اللبنانيّ الجديد في دمشق. إذ عيّنت سوريا أخيراً أيمن سوسان، الدّبلوماسيّ المُخضرم و”التلميذ الخاصّ” للوزير السّابق وليد المُعلّم، سفيراً لدى لبنان خلفاً لعلي عبد الكريم علي، وهي ستعتبر أيّ تمثيل لبنانيّ لا يُساوي مستوى سوسان الدّبلوماسيّ استخفافاً بها.
سادساً والأهمّ: تُهيمن روسيا على الجانب السّوريّ المُتاخم للمنطقة المُتنازع عليها بين لبنان وسوريا في البحر، والتي تبلغ 1,000 كلم2 تقريباً. لا تجدُ موسكو ولا دمشق أيّ جدوى سياسيّة أو اقتصاديّة لترسيم الحدود مع لبنان، وهو ما يتيح لبيروت بدء العمل في البلوكَيْن 1 و2، بينما لن يستطيع الثّنائي موسكو – دمشق أن يقوم بأيّ عملٍ بسبب العقوبات الغربيّة على روسيا والشّركات الرّوسيّة، وكذلك عقوبات قانون قيصر الذي يحظر التعامل الاقتصاديّ والتجاريّ مع النّظام السّوريّ.
وجّه الرئيس بشّار الأسد صفعة مدوّية إلى خدّ رئيس الجمهورية ميشال عون، صفعة أصابت “طراطيشها” الثنائي الشيعي، وتحديداً حارة حريك، تذكيراً بـ”وحدة المسار والمصير” و”تلازم المسارين”
حدود لبنان “ورقة ابتزاز”
يُضاف إلى ذلك أنّ روسيا قد تُفضّل أن تترك الحدود اللبنانيّة – السّوريّة ورقةً تبتزّ بها الغرب الذي يبحث عن أيّ نقطة غازٍ تكون بديلاً للغاز الرّوسيّ. وبالتّالي لن تُفوّت فرصة التضييق على أيّ بئر مُحتملة في البلوكَيْن 1 و2.
في هذا الإطار، يقول المصدر لـ”أساس” إنّ روسيا تتوقّع أن يطلب منها لبنان أن تلعبَ دوراً في ترسيم الحدود البحريّة الشّماليّة، تماماً كما فعل مع الولايات المُتحدة لترسيم الحدود الجنوبيّة. وهذا الأمر إن حصلَ فقد يُسبّب إحراجاً سياسيّاً للبنان الذي طمأن الأميركيين بأنّ حواره مع الجانب السّوريّ لن يتعدّى الأمور التقنيّة اللازمة لترسيم الحدود، وأكّد أنّ المُحادثات المُحتملة لن تتّخذ أيّ صورة سياسيّة.
إلى ذلك، لم توقّع دمشق “اتفاقيّة الأمم المُتحدة لقانون البحار”، وهذا ليسَ تفصيلاً، خصوصاً أنّ لبنان يريد أن ينطلق بعمليّات الترسيم بناءً على الاتفاقيّة. وفي حال لم يُوافق الجانب السّوريّ، فإنّ لبنان سيجد صعوبةً في اللجوء إلى التحكيم الدّوليّ بسبب غياب التوقيع السّوريّ على الاتفاقيّة، وبالتّالي قد يستغرق اللجوء إلى القانون الدّوليّ 15 أو 20 عاماً في هذه المسألة.
إقرأ أيضاً: الترسيم مع سوريا… أصعب من إسرائيل
تتلاعب العوامل الدّاخليّة والخارجيّة بترسيم الحدود مع سوريا. ينتظر لبنان ساحراً جديداً يُشبه الموفد الأميركي آموس هوكستين ليُخرِجَ أرنباً يحسم الترسيم مع جارته الشّماليّة بحراً. قد يأتي السّاحر غداً، وقد لا يظهر أبداً، إلّا بإرادة دمشق والكرملين، لكنّ الأكيد أنّ عون “أكل” صفعة قويّة من الأسد، ستترك احمراراً على خدّيْ باسيل أيضاً.