المال لشراء الاستقرار.. الترسيم اللبناني ـ الإسرائيلي نموذجاً

مدة القراءة 5 د

الاقتصادي البريطاني جون كينز كان صائباً عندما لاحظ العلاقة الوطيدة بين “المال والسلام”، وأنّ المال يجب أن لا يكون سبباً للحرب، بل على العكس يجب أن يكون أداةً لمنع الحروب ونشر السلام، وأنّ الاستراتيجية السياسية الأكثر نجاحاً هي شراء الهدوء بالمال، وهي الاستراتيجية التي تديرها تل أبيب، سواء بالتوصّل إلى اتفاق بحري مع لبنان، أو في علاقتها مع غزّة.

كينز صار الإقتصادي الأكثر شهرة، بعدما شارك في الوفد البريطاني لتوقيع اتفاق فرساي، واستقال لاحقاً احتجاجاً على الشروط القاسية جدّاً التي فرضت على ألمانيا بعد خسارتها الحرب العالمية الأولى، محذراً من ان انهيار الاقتصاد الالماني جراء انهاكه بالتعويضات سيؤدي الى نشوب حرب عالمية ثانية، وهو ما حصل.

 

الترسيم بين لبنان وإسرائيل أنجح الاتفاقات الاستراتيجية

واقعية كينز وصوابية تقديره للربط بين المال والإستقرار، يراها الكاتب الإسرائيلي ميراف أرلوزوروف تتحقق بين بلاده ولبنان ، معتبراً أنّ اتفاق الترسيم البحري ليس بعيداً عن جوهر فكر هذا الاقتصادي. فالاتفاق هو اتفاق اقتصادي تنازلت فيه إسرائيل للبنان عن المياه الاقتصادية التي يوجد فيها مخزون الغاز لبئر قانا، والذي يُقدَّر بنحو خمسة مليارات، وتنازلت فيه عن حصّة لها تبلغ 2 مليار لشراء الهدوء والسلام.

بالنسبة لأرلوزوروف، فإنّ هذا الاتفاق سيكون أحد أنجح الاتفاقات الاستراتيجية لإسرائيل على الإطلاق، لأنّ تل أبيب نجحت في شراء الهدوء مع لبنان بمليارَيْ دولار، وهو مبلغ ضئيل بالمقارنة مع كلفة الحرب الهائلة وعائدات الهدوء الكبيرة التي ستجعل الاستثمارات تتدفّق إلى إسرائيل، ومبلغ ضئيل أيضاً بالنسبة إلى الإنجاز “الجيوسياسي”. وهذا يعيدنا إلى كينز: ليس هناك استراتيجية ناجحة أكثر من شراء الهدوء بالمال. وما دام هناك مصالح اقتصادية كبيرة للبنان في البحر المجاور لنا، فإنّ خطر الحرب يتقلّص.

لا يريد المواطن الإسرائيلي، كما اللبناني، حرباً ثالثة بين البلدين تكون محصّلتها في النهاية توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين

تقاطع مصالح أجبر الحزب على تعديل موقفه من الترسيم

في تقدير غيورا إيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي والشخص الذي رسّم خط الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في سنة 2000، فإنّ المقصود هو “صفقة الحلم”. فوفقاً لإيلاند، وضع حزب الله فيتو على اتفاق بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود الاقتصادية منذ سنة 2010، لكن ما تغيّر في السنة الأخيرة هو انهيار الاقتصاد اللبناني، واعتبار مداخيل الغاز هي طوق نجاة.

أمّا في الجانب الإسرائيلي، فإنّ تدخُّل الرئيس الأميركي جو بايدن الشخصيّ في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والتحادث مع رئيس الحكومة يائير لابيد، وإرسال الوسيط آموس هوكستين في رحلات مكّوكية بين القدس وبيروت، كان عنصراً حاسماً في التوصّل إلى اتفاق وسط بين الطرفين سيمكن بفضله استخراج الغاز في شرق البحر المتوسط، في وقت تشهد خزّانات الغاز والنفط في أوروبا تعطّشاً كبيراً على أبواب الشتاء بسبب الحرب الأوكرانية. بالتأكيد لن تكون مخرجات الغاز في متناول اليد قريباً، لكنّ التوصّل إلى اتفاق ترسيم بحريّ يبعث بحدّ ذاته رسائل طمأنة إلى سوق الغاز التي أصبحت عصبيّة.

 

هآرتس: حزب الله ردع إسرائيل

صحيفة “هآرتس” تحدثت عن وجود “قضيّة مكبوتة” في التوصّل إلى الترسيم البحري، وفحواها أنّ ما ردع إسرائيل هو حزب الله، ورأت أنّ الإسرائيليين “غير معنيّين بمناقشة ثمن الحرب مع حزب الله”، مشيرة إلى أنّه “كان يجري الحديث عن سيناريو يوم القيامة: آلاف الصواريخ ستسقط على إسرائيل، دمار هائل، قرى مدمّرة، آلاف المدنيين قتلى، مئات آلاف الجرحى”.

لا يريد المواطن الإسرائيلي، كما اللبناني، حرباً ثالثة بين البلدين تكون محصّلتها في النهاية توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين. وفي استطلاع نشرته صحيفة “معاريف”، تبيّن أنّ نسبة المواطنين في إسرائيل الذين يؤيّدون اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان أعلى من نسبة المعارضين له. وعبّر 42% من المشاركين في الاستطلاع عن تأييدهم لاتفاق ترسيم الحدود البحرية، وقال 31% إنّهم يعارضون الاتفاق، بينما قال 27% إنّه لا رأي لهم حيال هذا الاتفاق.

إقرأ أيضاً: إسرائيل: تهديدات السيّد لن تمنع التنقيب في كاريش

نتانياهو: استسلام مهين لحزب الله

قبل وضع الحبر على وثيقة التفاهمات مع لبنان على ترسيم الحدود البحرية في الناقورة، شنّت المعارضة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتانياهو هجوماً على الاتفاق لأنّ آخر ما يريده نتانياهو هو توصّل لابيد إلى اتفاق الترسيم مع لبنان على مقربة من أسبوعين من انتخابات الكنيست. وكان نتانياهو قد وصف الاتفاق بأنّه “استسلام تاريخي مهين” لـ”حزب الله” وسيقتطع المليارات من مكاسب إسرائيل المستقبلية من الغاز ويضخّها إلى تنظيم حزب الله.

أمّا المؤيّدون للاتفاق فوصفوه بأنّه “اتفاق تاريخي” يشقّ الطريق لتطبيع العلاقات مع لبنان. ومن جهته، أعلن يائير لابيد التوصّل إلى “اتفاق تاريخي” مع لبنان، وقال إنّه سيقوّي إسرائيل ويضخّ المليارات في اقتصادها، في حين قال وزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس إنّ اتفاق الترسيم يضمن المصالح العميقة لدولة إسرائيل، وإنّ تل أبيب لم تتنازل عن أيّ ميلّيمتر من أمنها بموجب اتفاق الترسيم.

*كاتبة فلسطينية

مواضيع ذات صلة

“دوخة” نيابيّة: جلسة من دون فرنجيّة وجعجع!

“الوضع بدوّخ. المعطيات مُتضاربة ومُتغيّرة كالبورصة. ولا توافق سياسيّاً بالحدّ الأدنى حتى الآن على أيّ اسم لرئاسة الجمهورية”. هي حصيلة مختصرة للمداولات الرئاسية في الأيّام…

جعجع في عين التّينة لإنضاج الرّئاسة؟!

عاثرٌ جدّاً حظّ سليمان فرنجية. مرةً، واثنتيْن وثلاث مرّات، بلغت الرئاسة حلقه، لتُسحب في اللحظات الأخيرة، فيقف على أعتاب القصر عاجزاً عن دخوله، ويعود أدراجه…

يومٌ في دمشق: فرحٌ ممزوج بالقلق

مرّت 14 سنة بالتّمام والكمال عن المرّة الأخيرة التي زُرتُ فيها العاصمة السّوريّة دِمشق، في كانون الأوّل من عام 2010، أي قبل 4 أشهر من…

برّي والرّئاسة: Now or Never

ما كادت تمرّ أيّام قليلة على الإطاحة بالنظام السوري، حتى ظهرت أوّل تداعيات “الانقلاب الكبير” على الرقعة اللبنانية، في شقّها الرئاسي: انقلبت أدوار القوى السياسية،…