تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث.
في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً يُنشر على حلقات متتابعة، ويعيد قراءة وجوه الانتفاضة ونتائجها. وهنا حلقة خامسة عن مشهدية 17 تشرين، وكيف أنّها صنعت فرحاً وأماناً وأشعرت المشاركين بها بالحرية.
إحساسٌ عارم بالبهجة والإلفة والأمان والحنان والخلاص: هذا هو التبسيط الممكن لشرح الشعور الغامر بالنشوة الجماعية أو حالة اليوفوريا التي سرَت كالوباء بين المشاركين في تظاهرات 17 تشرين 2019 في أرجاء لبنان طوال أشهر عشرة. يوفوريا غير مسبوقة جعلت الوجوه الغريبة أليفة وأنيسة ورفيقة، وحوّلت جموع المتظاهرين إلى عائلة واحدة كبرى، وقلبت الشتائم البذيئة إلى أناشيد وطنية ردّدها أكثر الناس “تهذيباً”، وفرحوا بأن يردّدها أطفالهم. أتذكّر الضحكات والابتسامات الحنونة من حولي في ساحات الثورة، تحتضنني وأبادل أصحابها الاحتضان كأنّنا جميعاً انعتقنا للتوّ، أو كأنّنا حظينا بشيء كان بعيد المنال.
التظاهرة الأليمة
يوفوريا ثورة 17 تشرين أسقطت محرّمات صمدَت كالـفزّاعات منذ الحرب الأهلية، وانتقلت شرارة الثورة بشعاراتٍ موحّدة تجاوزت عقدة الطائفة والمنطقة والزعيم من الشمال إلى الجنوب، ومن بيروت إلى البقاع. رأينا صور زعماء الحكم، وبينهم قادة ميليشيات مثل حسن نصرالله ونبيه برّي، تُشنَق وتُحرَق للمرّة الأولى في ساحات الثورة في بيروت وعواصم المحافظات. وشهدنا أبناء المناطق ينتفضون على زعمائهم التقليديين ويتحدّون شبّيحتهم، وتأثّرنا بدموعٍ ذرفها عناصر من المؤسسات العسكرية أمام جحافل الثوار السلميّة.
ما بقيَ من يوفوريا ثورة 17 تشرين هو أعمق من مجرّد ذكرى وأبعد من استقالة حكومة. فازَت الثورة بنحو 10 في المئة من مقاعد مجلس النواب
وفيما تنتهي النشوات الفردية بالتقاط الأنفاس، تبخّرت النشوة الثورية تلك بألم جماعيّ على وقع الضربات المتتالية التي وجّهتها إليها أجهزة الزعماء الحاكمين ومرتزقتهم. واضمحلّت التظاهرات تدريجياً، بالقتلِ والضربِ والخطفِ والسحلِ، إلى أن بترها تماماً فقء أعين الثوّار وخردقة أجسادهم برصاص جهاز رئيس مجلس النواب نبيه برّي خلال تظاهرة 8 آب 2020. حصلَ ذلك بعد أربعة أيام فقط على تفجير مرفأ بيروت ومقتل أكثر من 230 مدنياً وجرح الآلاف وتشريد مئات الآلاف. وحلّ الصمت على ساحاتِ الثورة منذ تلك التظاهرة الأليمة.
حدود الصرخة الجماعيّة
انكفأت ثورة 17 تشرين، أجل. ولكنّ انبعاثها مسألة حتميّة، ليس فقط لأنّ أسبابها لم تتغيّر، بل لأنّها اشتدّت وتفاقمت مع تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية إلى أسوأ مستوياتها في تاريخ لبنان. انهزمَت يوفوريا الثورة موقّتاً، وليس من الواقعيّ الافتراض أنّها كانت لتَهزمَ بحماستها الجماعية البريئة، وحدَها، نصف قرنٍ من الحكم المتجذّر في النظام والمؤسّسات لزعماء الميليشيات وحيتانِ المال وساسة الانتهازية، وذلك لأنّ تحرير الوعي الموروث يقتضي سنواتٍ من العمل المنهجيّ المُمأسس، ولا تكفي لشحذِه صرخةٌ جماعية، مهما كانت صادحة ومحقّة. وقد باشرَ المثقّفون من الثوار تأسيس أحزابٍ ومجموعاتٍ سياسية منذ بدء الثورة، ولكنّ أغلبها لم يزل ليّن العود والخبرة.
انتهت يوفوريا الثورة، واشتدّ وقع غيابها على مَن ذاقَوا طعم نشوتها العارمة لدرجة أنّ كثراً منهم عجزوا عن الاستمتاع بفوزِ مستقلّين من خارج المنظومة الحاكمة بنحو 10 في المئة من مقاعد النواب في الانتخابات النيابية التي جرت في أيار 2022. فلشدّة ما غلبَنا الأوغاد على مرّ السنوات في هذا البلد المنكوب بعصاباته الحاكمة، لم نعُد قادرين على تصديق إمكانية حصول أيّ تغيير، مهما كان صغيراً. ولأنّنا لم نعرف من العمل السياسي في لبنان، على الأقلّ منذ ما بعد الحرب الأهلية، سوى الارتهان والانتهازية والبلطجة والإجرام والفساد، لم يعُد في ذاكرتنا ما يُسعفنا لتخيّل أيّ مشهدٍ سياسيّ آخر، ولأنّ التحدّيات والحاجات عظُمَت على أيّ أملٍ، والحزن تفاقم حتى صار الفرح مشبوهاً. ودليل ذلك أنّ هذا النصر الانتخابي الصغير فاجأ الناخبين والمنتخَبين معاً لشدّة ما تمكّن اليأس منّا، بل شاهدنا أحد هؤلاء النواب المستقلّين يذرف الدمع بعد فوزه غير مصدّق.
يوفوريا ثورة 17 تشرين أسقطت محرّمات صمدَت كالـفزّاعات منذ الحرب الأهلية، وانتقلت شرارة الثورة بشعاراتٍ موحّدة تجاوزت عقدة الطائفة والمنطقة والزعيم
تفاؤل رومنسيّ؟
غير أنّ ما بقيَ من يوفوريا ثورة 17 تشرين هو أعمق من مجرّد ذكرى وأبعد من استقالة حكومة. فازَت الثورة بنحو 10 في المئة من مقاعد مجلس النواب. وذلك على الرغم من تراجع نسبة الاقتراع إلى 42 في المئة بعدما قاربت 50 في المئة في انتخابات 2018. لم تنجح يوفوريا الثورة في تحرير الأكثرية الناخبة من يأسها وإقناعها بضرورة الاقتراع لتحقيق التغيير انطلاقاً من المجلس النيابي، لكنّها نجحت على الأقلّ، ولو نسبيّاً، في التفاف نسبة لا بأس بها من أصوات المقترعين حول قوائم التغيير. ولو كانت تلك القوائم توحّدت لشاهدنا عدداً أكبر بكثير من النواب الجدد والتغييريّين في مجلس النواب.
ولا ننسى كيف نجحت يوفوريا الثورة، نوعاً ما، في تحقيق التغيير الإيجابي على مستوياتٍ أخرى. إذ فازَ مرشّحون حملوا شعارات التغيير باسمها في انتخابات مجالس عدد من الجامعات ونقابات المهن الحرّة. وشاهدنا يوفوريا الثورة تتجسّد في ارتفاع منسوب “الحسّ بالواجب العامّ” لدى مئات المحامين والأطباء وغيرهم، بل ولدى عدد من كتّاب العدل، الذين سخّروا طاقاتهم لمساعدة المتضرّرين من أعمال القمع الإجرامية التي مارستها أجهزة ومرتزقة المنظومة الحاكمة ردعاً لمضيّ الثوّار في ثورتهم.
شاهدنا يوفوريا الثورة أيضاً في قراراتٍ ومواقف قضائية غير مسبوقة صدرت عن قضاة مستقلّين شرفاء في قضايا كبرى، منها قضيّة تفجير مرفأ بيروت وقضايا المودعين. ورأينا قضاة يعتصمون للمرّة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني أمام محكمة قصر العدل في بيروت، ويُصدرون بياناتٍ ضدّ المنظومة الحاكمة، ويخرجون عن “موجب التحفّظ” مطالبين بتكريس استقلالية القضاء وتطهيره من القضاة المرتهَنين للمنظومة الحاكمة.
قد يقول قائلٌ إنّني أجنح إلى التفاؤل الرومنسيّ في مقاربتي الموجزة هذه لثورة 17 تشرين في ذكراها الثالثة، وقد يضيفُ أنّ الخروج من مستنقع لبنان غير ممكن بانتفاضة على وزن ثورة 17 تشرين، لأنّه محكومٌ بالميليشيات فيما الثوّار ليسوا حَمَلة سلاح ولا هم من أنصار العنف. ولكن أليس التشاؤم صنواً للإذعان؟ أليسَ الإذعانُ “العاقل” المزمن هو ما سمحَ للأوغاد من الساسة بالاستئثار بحكم بلدنا منذ عقود؟
إقرأ أيضاً: دور “السُّنَّة”.. في ثورة تشرين “الفاشلة”
إن كانت ثورة 17 تشرين لم تحقّق سوى القليل فذلك لأنّ المطلوب كثير والطريق إليه طويلة. وإذا أردنا للبنان أن يكون فعلاً دولة القانون والمؤسّسات والحكم العادل يجب أن نبدأ بتصديق إمكانية تحقيق لبنان هذا. فليكن مجلس النواب وجهة معركتنا السلميّة، وليكن رفع الوعي الانتخابي عبر العمل السياسيّ السليم أداة نزاعِنا الطويل مع المنظومة الإجرامية التي تحكمنا. ولتكن ذاكرة ثورة 17 تشرين ونشوتها الممتعة حافزَنا للمضيّ في عملية التغيير، مهما طال أمدُها.
* محامية وحقوقيّة ومدافعة عن معتقلي 17 تشرين.