تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث.
في الحلقة الثالثة ينشر “أساس” مقتطفات من فصل في كتاب وثائقي بحثيّ أعدّه خالد زيادة ومحمد أبي سمرا وفريق من الباحثين والصحافيين المتابعين، يُنشر قريباً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في بيروت، وعنوانه “انتفاضة 17 تشرين في لبنان: ساحات وشهادات”.نشوء معسكرين
قد يكون العامل البعيد الذي أسّس لانتفاضة 17 تشرين 2019 ومهّد لقيامها على بنية النظام السياسي اللبناني، هو تغوّل المحاصصة الطائفية لمقدّرات الدولة ومناصبها بين الزعماء السياسيين، بعد توقّف الحروب الأهلية – الإقليمية في لبنان (1975-1990)، وإقرار “اتفاق الطائف” الذي نشأ عنه نظام “وصاية” سورية على إدارة شؤون الدولة اللبنانية حتى اغتيال رفيق الحريري، ونشوء معسكرين سياسيَّين لبنانيَّين كبيرين ومتصارعين:
1- معسكر 8 آذار: نشأ عن تظاهرة ضخمة تصدّرها “حزب الله” و”حركة أمل” وجمهورهما الشيعي في ساحة رياض الصلح، وسط بيروت، في 8 آذار 2005، لإعلان الولاء لنظام بشّار الأسد السوري و”شكره” على دعمه “مقاومة حزب الله” الاحتلال الإسرائيلي، فيما كان شطر كبير من اللبنانيين المتنوّعين طائفياً يتظاهرون في ساحة الشهداء ويتّهمون النظام السوري باغتيال الحريري.
2- معسكر 14 آذار: نشأ عن التظاهرة المليونيّة في ساحة الشهداء في 14 آذار 2005، بعد شهر على اغتيال رفيق الحريري. وفي وجه من وجوهها كانت تلك التظاهرة الحاشدة والمتنوّعة طائفيّاً ردّاً على تظاهرة 8 آذار، إذ أكّدت اتّهام النظام السوري بالاغتيال، وجدّدت دعوتها إلى خروج جيشه وأجهزة استخباراته من لبنان. وجمع معسكر 14 آذار قوىً وجماعات وكتلاً وفئات اجتماعية وطائفية ومناطقية من المكوّنات اللبنانية كافّة، إضافة إلى مجموعات وأفراد من المستقلّين عن الطوائف وزعمائها، بينهم كثرة من الشيعة.
فللنهوض بمشروع إعادة الإعمار وبناء مؤسّسات الدولة، بالغت الحريرية السياسية والاقتصادية في شرائها ولاء زعماء أو أمراء الميليشيات المنتصرة وجماعاتها وأجهزتها الطائفية الموالين أصلاً للنظام السوري
صراع المعسكرين
بعد اغتيال الحريري وسم صراع هذين المعسكرين الحياة السياسية اللبنانية، ولم يخلُ صراعهما من صدامات عنيفة، غالباً ما بادر إليها معسكر 8 آذار بقيادة “حزب الله”. وعلى الرغم من التئام المعسكرين القلق والمضطرب في حكومات مشتركة سُمِّيت “حكومات وفاق وطني”، عاش لبنان بين 2005 و2019 حقبة سياسية قلقة ومضطربة، شهدت حوادث ونزاعات ومنعطفات كثيرة، بارزة ومتلاحقة، منها:
– تفجيرات واغتيالات متتالية لسياسيين ونواب ووزراء وأمنيّين وعسكريين وشخصيّاتٍ وصحافيّين، كلّهم من معسكر 14 آذار، بدأت بالوزير والنائب مروان حمادة (2004)، وانتهت بالوزير محمد شطح في 2013، ثمّ استُكملت باغتيال لقمان سليم في 2021.
– التحاق عون بمعسكر 8 آذار، وتوقيعه في 2006 ما سُمّي “ورقة تفاهم” مع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، في كنيسة مار مخايل في الشيّاح.
– نشوب حرب تموز – آب 2006، بعد إقدام “حزب الله” على خطف جنود إسرائيليين. أدّت تلك الحرب إلى تهجير مئات الألوف من الجنوبيّين الشيعة، وسقوط ألوف القتلى والجرحى، وتدمير هائل في العمران والبنى التحتية وخسارة اقتصادية فادحة بعشرات مليارات الدولارات، فيما اعتبر “حزب الله” أنّه خرج من الحرب منتصراً، وأطلق عليها تسميتين: “الوعد الصادق” و”النصر الإلهي”.
– إطلاق معسكر 8 آذار حملة احتجاجيّة ضخمة على ما سمّاه حزب الله “تواطؤ” الحكومة اللبنانية مع العدوّ الإسرائيلي وأميركا ضدّ “المقاومة” في حرب تموز. فخيّم جمهور 8 آذار طوال عامين (ما بين 2006 و2008) في وسط بيروت وعطّل الحياة والأعمال فيه، وحاصر السراي الحكومي بغية إسقاط الحكومة.
– لم ينتهِ التخييم في وسط بيروت إلا بعد هجوم مسلّحي معسكر 8 آذار على بيروت وأحيائها السنّية، ومناطق عاليه والشويفات والشوف الدرزية. واستمرّ ذلك الهجوم المسلّح ما بين 7 و14 أيار 2008، وأدّى إلى سقوط أكثر من مئة قتيل معظمهم من المدنيين، وسيطرة مسلّحي “حزب الله” و”حركة أمل” و”الحزب السوري القومي” سيطرة شبه عسكرية على مدينة بيروت. وبدأ الحديث عمّا سُمّي آنذاك “الإحباط السنّي” (نسجاً على منوال “الإحباط المسيحي” في حقبة “الوصاية السورية”).
– انتهت حملة 7 أيار العسكرية بلقاء الزعماء اللبنانيين في قطر، وإبرامهم ما سُمّي “اتفاق الدوحة” في 21 أيار 2008. ومن نتائجه: انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية (25 أيار 2008)، وتكريس محاصصة طائفية سياسية فاقعة بين قوى المعسكرين في تشكيل الحكومات وتعطيل تشكيلها وعملها، باعتماد تقليد أو عرف جديد سُمّي “الثلث المعطّل” الذي ابتكره معسكر 8 آذار.
– على الرغم من فوزه في الانتخابات النيابية سنة 2005 وسنة 2009، لم يستطع معسكر 14 آذار أن يحكم بسبب إصرار فريق 8 آذار على المشاركة في الحكومة بحصّة من الوزراء تضمن له تعطيل عملها متى أراد. وبعد انتهاء عهد ميشال سليمان الرئاسي في أيار 2014، تعطّل انتخاب رئيس جديد للجمهورية طوال عامين، لإصرار المعسكر عينه على انتخاب قطبه المسيحي ميشال عون رئيساً، فكان له ذلك في 2016.
– منذ العام 2012 بدأ حزب الله يزجّ بآلته العسكرية ومقاتليه لمحاربة الشعب السوري الثائر على نظام بشار الأسد في العام 2012. وبدأت في العام 2013 سلسلة من التفجيرات والعمليات الانتحارية في مناطق لبنانية عدّة استهدفت مناطق شيعية في ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع الشمالي. وضرب تفجيران مدينة طرابلس، أحدهما في منطقة جبل محسن العلويّة السكّان، والثاني شديد الضخامة استهدف مسجدين في أحياء سنّيّة طرابلسية.
حال النظام السوري دون أن يكون للحكومة اللبنانية سلطة فعليّة على المؤسّسات الأمنيّة والعسكرية (الجيش)، ودون أن يكون للمؤسّسات الدستورية سياساتها المستقلّة عن سياسات النظام السوري ومصالحه في لبنان
نظـام التوزيع
أدّى صراع المعسكرين، وقتال “حزب الله” في سوريا، والتعطيل المستمرّ لنظام الحكم، إلى تداعي الحياة السياسية والأوضاع الاقتصادية والماليّة وبداية انهيارها.
لكنّ نظام “الوصاية” السورية كان قد أسّس لإرهاصات النهج السياسي والأمني والاقتصادي الذي ساد وتفاقم بعد 2005. وتضافر مع استقواء معسكر 8 آذار عزوف النخبة السياسية في معسكر 14 آذار وعجزها عن تجاوز إرث نظام “الوصاية”. وهو كان يحمل في طيّاته إرث الحروب الأهلية – الإقليمية في لبنان (1975 – 1990) ونتائجها.
منذ بدايات “الوصاية” في مطلع التسعينيّات تولّى رفيق الحريري رئاسة حكومات متعاقبة، وأطلق مشروع إعمار ما دمّرته الحروب وبناء مؤسّسات الدولة المفكّكة والممزّقة. وهو اعتمد في مشروعه ذاك نظاماً تحضر جذوره البعيدة في صيغة تأسيس الدولة اللبنانية الحديثة. لكنّه ربّما اضطرّ إلى صوغه بناءً على حاجات “الوصاية” السورية، التي يُقال إنّها شوّهت اتفاق الطائف وغلّبت عليه أسوأ ما فيه من عوامل وديناميّات سياسية واقتصادية وإدارية: توزيع المناصب السياسية والوزارية والنيابية وعوائد الدولة الاقتصادية والمالية والخدماتية والوظائف في الإدارات العامّة الحكومية لقاء الولاء لنظام “سوريا الأسد” و”وصايته” على لبنان، واستبعاد غير الموالين من توزيع الحصص، وهم غالباً مقدّمو الجماعات المسيحية وأحزابها وزعماؤها “العضويّون” المهزومون في الحرب وفي نظام “الوصاية” الذي أعقبها. وعمل نظام التوزيع – الولاء – الإعالة هذا على تحويل مؤسّسات الحكم وأجهزته والإدارة العامّة والماليّة العامّة للدولة وخدماتها، إلى ما يشبه غنيمة لإعالة الموالين وجماعاتهم الميليشياوية الأهليّة الموروثة من الحرب، والمفترض أنّها انتصرت فيها. وهكذا تضخّم القطاع العامّ الإداري والأمنيّ والعسكري شيئاً فشيئاً، وتضخّمت مرتّباته وكلفته المالية على خزينة الدولة العامّة التي عمدت إلى الاستدانة الخارجية والداخلية لتغطية نفقاتها المتصاعدة، واعتمدت اقتصاداً ريعياً ضعيف الإنتاج وتتعثّر فيه الجبايات على اختلافها، بسبب نظام الولاء – الإعالة – التوزيع عينه.
فللنهوض بمشروع إعادة الإعمار وبناء مؤسّسات الدولة، بالغت الحريرية السياسية والاقتصادية في شرائها ولاء زعماء أو أمراء الميليشيات المنتصرة وجماعاتها وأجهزتها الطائفية (الموالين أصلاً للنظام السوري). وبالغت الحريرية أيضاً في شراء وكلاء نظام الأسد الأمنيّين والسياسيين في لبنان. وهذا كلّه للسماح لها بتنفيذ مشروعها الإعماري الذي لم يسمح نظام الأسد به إلا ليكون تمويلاً لنظام “الوصاية”.
إقرأ أيضاً: نقضٌ لـ14 آذار وكرنفالٌ لوداع لبنان
وفوق هذا كلّه حال النظام السوري دون أن يكون للحكومة اللبنانية سلطة فعليّة على المؤسّسات الأمنيّة والعسكرية (الجيش)، ودون أن يكون للمؤسّسات الدستورية (رئاسة الجمهورية، والحكومة نفسها، ومجلس النواب، وحتى القضاء) سياساتها المستقلّة عن سياسات النظام السوري ومصالحه في لبنان. أمّا “حزب الله” فقد تشارك النظامان الإيراني والسوري وأشرفا مباشرة على تولّيه منفرداً، ولحسابهما الخاص، مقاومةَ الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، منقطعاً انقطاعاً تامّاً وناجزاً عن أيّ تدخّل للحكومة اللبنانية في استراتيجياته وشؤونه وقراراته.
وحكومة، بل دولة هذه حالها، يستحيل أن تملك مقدّراتها وتكون لها سلطة عليها وعلى قراراتها وإدارة شؤونها، إلا في إدارتها نظام الإعالة – الولاء وتوزيعها الريوع والغنائم. وهذا نظام حصر دور الدولة اللبنانية والحكومة اللبنانية ووجودهما شبه الشكليّ أو الأجوف بخدمة نظام “الوصاية” واستمراره. ولمّا حاول رفيق الحريري الخروج البطيء والهادئ وبخطوات مدروسة عن ذلك النظام، اغتيل.
الحلقة الثانية: على أيّ نظام قامت انتفاضة تشرين: “المناهبة” الخماسيّة؟