الخوف من تراجع روسيا لا من نصرها

ترتفع وتيرة المخاوف من استعمال أسلحة غير تقليدية في أوكرانيا. لا يتّصل الباعث على هذا القلق حصراً بالرغبة الروسيّة العارمة بسحق أوكرانيا، ولا باندفاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإرثه السوفييتي الإلغائيّ، وكلاهما الأصل في رؤية بوتين. هذا التحسّب أطلقه الرئيس الأميركي جو بايدن الذي حذّر من ذلك في برنامج “60 دقيقة” على شبكة “سي بي إس” الذي يُبثّ الأحد المقبل.

تزامن هذا التحذير الأميركي مع توسيع روسيا هجماتها على أهداف مدنية بعد خسارتها 6 آلاف كيلومتر مربّع من ما كانت  احتلته من الأراضي الأوكرانية في حربها التي سمّتها “عمليّة عسكرية خاصّة” تملّصاً من “حرج” تحديد أهدافها، فيما سمّتها واشنطن “حرب بوتين”.

انفجار مرفأ بيروت مثالاً

تحذير بايدن هو الثاني من نوعه بعد الأوّل الذي أطلقه في آذار الماضي “خشيةً واستدراكاً” لترنّح القوات الروسيّة في كييف. أمّا التحذير الحالي فينطوي على جدّية أعلى مردّها تراجع القوات الروسية وارتفاع الأسئلة في روسيا نفسها عن “الخطوة التالية”. لم تكن هذه المخاوف الأميركية يتيمةً. فقد سبق للهند والصين، وهما حليفتان لروسيا، أن عبّرتا عن مخاوف في شأن هذه الحرب.

مع اقتراب فصل الشتاء ستزداد الأمور صعوبة في مجالَيْ الميدان الحربي والضغط الاقتصادي، وهما عاملان مترابطان ومقرّران في وجهة الأحداث

أما عنوان “الأسلحة غير التقليدية” فهو حتى الساعة عبارة “مطّاطيّة”، وسبق لروسيا في غزوها أوكرانيا أن استعملت “القنابل العنقودية”. ما يُخشى منه راهناً هو “الأسلحة الجرثومية” أو حتى “الأسلحة النووية”.

لهذه المخاوف ما يبرّرها. كان أصل القلق العالميّ في ما أعلنه بوتين نفسه عام 2018 عن وجود خمسة برامج أسلحة نووية رئيسية لدى قوّاته العسكرية، وسمّاها آنذاك “الأسلحة الفائقة” وقدرتها تتخطّى 5 آلاف كيلومتر.

هذا لا يعني على الإطلاق أنّ الاندفاع نحو الأسلحة النووية يشبه ما حصل في هيروشيما وناكازاكي. فالخشية هي من “أسلحة نووية تكتيكية” يمكن خفض قدرتها التفجيرية إلى نحو 0.3 طن، أي أقلّ بنحو خمسين ضعفاً من قنبلة هيروشيما، والدمار الذي تحدثه قارنته مجلّة “إيكونوميست” مع الدمار الذي أحدثه انفجار مرفأ بيروت في آب من العام 2020.

نزعة روسيا التدميرية

تاريخ روسيا البوتيني يثير القلق تلقائيّاً. فالرجل استخدم غاز الأعصاب “نوفيتشوك” في استهداف معارضيه عام 2018. وحصل ذلك على الضدّ ممّا كانت أعلنته موسكو عام 2017 عن أنّها دمّرت كامل ترسانتها من الأسلحة الكيمياوية. وهذا الزعم دحضه مركز “أتلانتك كاونسل”.

يفيد تاريخ روسيا، قديمه وحاضره، أنّ هذه البلاد بنزعاتها “الإمبراطورية السوفييتية” وحتى “القومية” لا تتورّع عن سياسات التدمير التي اعتمدتها في الشيشان وسوريا. أما ما تعلنه عن “تدمير برامج أسلحة غير تقليدية” فكان مضلّلاً على الدوام، وثبت أنّها تحتفظ بـ “قدرات وبرامج سرّية”.

حتى الساعة تعثّرت خطّة بوتين لاستخدام الطاقة “سلاحاً” لكسر الإرادة الأوروبية في دعم أوكرانيا، فيما قواته “تُهزم وتتراجع”. عمليّاً يخسر الرئيس الروسي على الجهتين: الميدانية في أوكرنيا، وفي الحرب الاقتصادية على أوروبا. هاتان الجبهتان هما “العنصر الحاسم” في تقدير وجهة روسيا التي لا يبدو أنّها في صدد التراجع. وهذا هو على وجه الدقّة ما يبعث المخاوف من “الأسلحة غير التقليدية” التي صار حضورها في المشهد كثيفاً ومحلّ متابعة.

لم يترك بوتين احتمالاً معقولاً يوفر مخارج للاحتدام في القارّة الأوروبية، ومن ورائها العالم. هكذا صار الوضع أمام انسداد سياسي. فقد ربطت روسيا استئناف ضخّ الغاز إلى أوروبا برفع العقوبات عنها. وهذا ما ردّت عليه الدول الأوروبية بمزيد من التحدّي: الاستعانة بإمدادات بديلة وخفض استخدام الغاز من خلال إغلاق المصانع وخفض استهلاك الأسر جرّاء ارتفاع الفاتورة.

الانسداد السياسي هذا قابلته أضرار نزلت بالاقتصاد الروسي. فبيانات الحكومة الروسيّة أظهرت عجزاً كبيراً في الموازنة، وتقلُّص الفائض إلى 137 مليار روبل بعدما كان وصل إلى 481 مليار روبل في تموز الماضي. يزيد هذا الواقع من التأزّم الروسي، ويُضاف إلى عناصر القلق من الخطوة التالية التي قد يبادر إليها بوتين.

إقرأ أيضاً: الصراع الأميركي – الروسي.. أوروبا الضحية

دفع التأزّمُ والانسداد في الاقتصاد والميدان رئيسَ هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي إلى التحذير من الطريقة التي ستردّ بها روسيا على “انتكاساتها في ساحة المعركة”.

ومع اقتراب فصل الشتاء ستزداد الأمور صعوبة في مجالَيْ الميدان الحربي والضغط الاقتصادي، وهما عاملان مترابطان ومقرّران في وجهة الأحداث.