لبنان الإفلاس ولبنان “ميّاس”

مدة القراءة 5 د

رائعة فرقة “ميّاس”. خلّاقة. مبدعة. كاملة. استحقّت عن جدارة المرتبة الأولى في البرنامج الأشهر عالمياً America’s Got Talent.

منذ أيام انشغل الرأي العامّ اللبنانيّ بحدث فوز “ميّاس”. فرقة “ميّاس” لم تفُز بالمرتبة الأولى فحسب، إنّما “تُغيّر العالم” بحسب تعبير Simon، أحد أعضاء لجنة التحكيم. والأمر كذلك فعلاً. المشهديّة التي قدّمها ابن قرطبا لم يرَ العالم مثيلاً لها من قبل. الرقص لغة الجسد. صحيح. كلّ راقص يعبّر بلغته. ولكن نديم شرفان اخترع عالماً جديداً فيه. لذلك قال Simon إنّ “ميّاس تُغيّر العالم”. أكتفي بهذا القدر من الكلام عن إبداع “ميّاس” لثلاثة أسباب:

1- لأنّني لست ناقداً فنّيّاً، ولا فنّاناً. ولكنّي أعشق الرقص. أوّل مرّة حضرت فيها عملاً مسرحيّاً لفرقة كركلّا كان بعنوان “أصداء”، وقد عُرض في ثمانينيّات القرن الماضي في جونيه. عدت مرّتين وثلاثاً لحضور العرض ذاته. وفي كلّ مرّة كنت أكتشف فيه إبداعاً جديداً. تطوّر العالم. فأنا أعود كلّ يوم إلى اليوتيوب لمشاهدة عروض “ميّاس” الأوّل والثاني والثالث…، وأكتشف فيها إبداعاً لم أرَه في المشاهدة التي سبقت.

2- أخشى أن لا تعطي كلماتي إبداع “ميّاس” حقّه. فالكلمات لا تطاوعني لوصف الموهبة الخلّاقة لمؤسّس الفرقة ولا لوصف روعة اللوحات الراقصة التي قدّمتها “ميّاس” بأجساد راقصاتها. فالعروض كانت كاملة بالكوريغرافيا، واللباس، والألوان، والإضاءة، والخلفيّة…

3- رغبتي في أن أترك لكلّ مشاهد حرّيّة التفاعل مع اللوحات التي جسّدتها “ميّاس” في عروضها، وأن لا تؤثّر كلماتي على تفاعله. فعروض “ميّاس” لوحات فنّيّة. وحالها كحال كلّ لوحة فنيّة إبداعيّة يتفاعل معها الإنسان بحسب شخصيّته وثقافته وحالته النفسيّة. من هنا ربّما رأى البعض الحزن في العين التي جسّدتها “ميّاس” في عرضها الأوّل، والبعض رأى الفرح، وآخرون التصميم. وشعر بعض اللبنانيين بالفخر بمشهديّة الأرزة البيضاء في العرض النهائي، والبعض بالحنين إلى لبنان الحقيقيّ، وآخرون بالحزن على لبنان الحاليّ.

تحوّل لبنان معهم من بلد الفنّ الذي يكتشف المواهب ويصقلها ويعطيها فرصة الإبداع ويطلقها نحو العالم العربي والعالم أجمع، إلى بلد بائس لا يجد مبدعوه مكاناً لهم فيه

حول هذا الحدث العظيم في تاريخ الفنّ اللبنانيّ والعالميّ:

1- لفتتني المقارنة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، بين مشهديّة “ميّاس” في أحد عروضها حين تظهر مثل جبل قاتم اللون يرتفع فوق الأرض متمايلاً، ومشهد الدخان الذي سبق انفجار مرفأ بيروت بلحظات والذي ارتفع أيضاً كجبل قاتم اللون ومتمايل. المشهدان متشابهان إلى حدّ بعيد في الشكل واللون والحركة. ولكنّهما مختلفان جذريّاً. فالأوّل لوحة فنّيّة رُسمت بأجساد بشريّة مُبدعة. والثاني جريمة إرهابيّة قتلت عشرات الأجساد البشريّة وجرحت المئات وشرّدت الآلاف. إنّه الفرق كلّ الفرق. وهنا أستعير من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تعبيره لأقول إنّه الفرق كلّ الفرق بين لبنانهم ولبناننا. إنّه أيضاً الفرق بين لبنان الذي حاول رفيق الحريري إعادة بنائه بعد الحرب ولبنان الذي فرضوه علينا بقوّة السلاح. يجب أن لا ننسى كيف انقضّوا على بيروت بعد استشهاد الحريري. أغلقوا وسطها باعتصامهم، وهجّروا الحياة منها بتهديداتهم. ثمّ قتلوها بنيتراتهم. وقتلوا كلّ من اكتشف أثراً لجريمتهم. واليوم يقتلون التحقيق برمّته.

2- لقد تحوّل لبنان معهم من بلد الفنّ الذي يكتشف المواهب ويصقلها ويعطيها فرصة الإبداع ويطلقها نحو العالم العربي والعالم أجمع، إلى بلد بائس لا يجد مبدعوه مكاناً لهم فيه. شاهدتُ “ميّاس” في America’s Got Talent وأنا في فرنسا كما شاهدتُ أيضاً عندما كنت أعيش فيها قبل حوالي عشرين عاماً النسخة الفرنسية الأولى من برنامج “ستار أكاديمي”. البرنامجان ذكّراني بـ”استديو الفنّ” الذي اخترعه وأعدّه وأخرجه الراحل سيمون أسمر وقدّمه أوّلاً على تلفزيون لبنان، ثمّ على LBC. لقد سبق “استديو الفن” أمثاله من برامج اليوم بعشرات السنوات. لا شكّ أنّ ظاهرة العولمة وتطوّر وسائل الإعلام والتواصل تعطي برامج اليوم بُعداً وانتشاراً كبيرين. إلا أنّ “استديو الفن” لا يقلّ عنها عبقريّة في الفكرة ولا حرفيّة في اكتشاف المواهب ومرافقتها.

3- استفزّتني وقاحة المنظومة الحاكمة، التي دمّرت البلد وتقوده من قعر إلى قعر، في افتخارها بـ “ميّاس” كما افتخرت قبلاً بوصول منتخب لبنان في كرة السلّة إلى نهائيّات آسيا وبتأهّله للمشاركة في كأس العالم. واستفزّت تلك الإشادات أيضاً الرأي العامّ اللبنانيّ الذي عبّر عن ردّة فعله على مواقع التواصل الاجتماعي. يغرّد أفراد المنظومة عن إبداع اللبنانيين وكأنّه إبداع لبنان الذي يحكمونه. وفي الواقع إنّه إبداع اللبنانيين الذين ينتمون إلى لبنان المناقض للبنان الذي دمّروه. وأتمنّى على فرقة “ميّاس” وقائدها نديم شرفان أن يرفضا الدعوة إلى تقليدهم وسام الاستحقاق الوطني. لا يستحقّ رئيس المنظومة الحاكمة شرف وقوفه إلى جانب “ميّاس” وتقليدها الوسام.

إقرأ أيضاً: الميّاس” تبهر لاس فيغاس: أتستحق بلدًا غير لبنان؟

من مطار بيروت قال قائد فرقة “ميّاس” نديم شرفان إنّه صنع هذا الإنجاز “كرمال لبنان”. ولكن بالتأكيد ليس “كرمال” لبنانهم، لبنان الإفلاس على كلّ المستويات. إنّما صنعه “كرمال” لبنان الإبداع الذي كان. فهو وفرقته ينتميان إلى ذاك اللبنان. إنّه اليوم لبنان “ميّاس”، كما كان بالأمس واليوم لبنان عاصي ومنصور وفيروز ووديع وكركلا…

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…

“الحزب” يتموضع مسبقاً شمال اللّيطاني؟

يتحضّر “الحزب” لـ”اليوم التالي” للحرب. لا يبدو أنّ بقيّة لبنان قد أعدّ عدّة واضحة لهذا اليوم. يصعب التعويل على ما يصدر عن حكومة تصريف الأعمال…

كيف استفاد نتنياهو من تعظيم قدرات الحزب للانقضاض؟

كلّما زار آموس هوكستين بيروت في الأشهر الماضية، كان المسؤولون اللبنانيون وبعض المتّصلين به من السياسيين يسرّبون بأنّها “الفرصة الأخيرة”. لكنّه ما يلبث أن يعود،…

نتنياهو هزم الجنرالات…

ما حكاية الخلاف الشديد بين بنيامين نتنياهو وجنرالات الجيش والأمن في إسرائيل؟ لماذا يبدو أبطال الحرب أقرب إلى التسويات السياسية مع الفلسطينيين، بل مع حلّ…