7 بلدان عربية: لماذا تغرق في الاضطراب؟

مدة القراءة 9 د

ما أسفرت الانتخابات النيابية في لبنان عن نتائج يمكن أن تدعم الاستقرار السياسي أو تؤشّر إلى اتجاهٍ للخروج من الانهيار أو إيقافه بأيّ ثمن. وينسب اللبنانيون ذلك إلى الحزب المسلّح وحليفه التيار العوني. وعندما يريدون بعث الأمل يقولون: لكنّ الحزب وحلفاءه فقدوا الأكثرية في مجلس النواب!

إنّما ماذا يفيد ذلك؟

في أستراليا فقدت الحكومة الأكثرية فاستقالت. أمّا رئيس الحكومة اللبنانية فلا يعتبر نفسه معنيّاً لأنّه لم يكن مرشّحاً ويستطيع أن يتحدّى الجميع بالقول: “حاولوا تشكيل حكومةٍ جديدةٍ إن استطعتم، أنا باقٍ على الساحة إلى الأبد”. وما يذهب إليه ميقاتي يذهب إليه الجنرال رئيس الجمهورية وصهره بالطبع. لا علم عندهم بما يحصل للناس، وهَمُّ جبران باسيل التفاخر على سمير جعجع الذي انتصر عليه بكلّ المواصفات.      

حالة لبنان ميؤوسٌ منها بكلّ المقاييس. لكنّني أريد الذهاب بعيداً إلى تونس.

ثلث الدول العربية مضطربة أو متصدّعة ومنذ مدّة. ولا فسحة للأمل من جهة النظام العربي أو النظام الدولي

تونس والتصدّعات

بعد الثورة عام 2011 دخلت البلاد، بخلاف بلدان الربيع الأُخرى، في حالة استقرارٍ وبناء. فجرت عدّة انتخابات وأُعيد تشكيل عدّة حكومات. وصحيح أنّ بعض الأحزاب السياسية ما كان سلوكها مثاليّاً، وفي طليعتها حركة النهضة، إنّما لا أحد كان يتوقّع أن يأتي الانقلاب من جانب النظام على نفسه. فقد انتخبت الأكثرية قيس سعيّد (وهو بروفسور في القانون) لرئاسة الجمهورية، ومن ضمن ناخبيه حركة النهضة الإسلامية. وقد أغار الرئيس الدستوري قبل عام على البرلمان فأوقفه ثمّ حلّه، وعلى الحكومة المتصدّعة فصارت في خبر كان، وشكّل بعد تردّد حكومةً لا يدري أحدٌ حتى الآن أسماء معظم وزرائها، وحلّ المحكمة العليا، ومفوضيّة الانتخابات، واستبدل بهما مجالس من عنده. ويريد الآن إجراء استفتاءٍ على دستورٍ جديدٍ ابتدعه مثلما ابتدع كلّ شيء بالبوليس. وفي كلّ يوم يخترع ما يُطيل أمد بقائه في الكرسي، في الوقت الذي تردّت فيه الأحوال الاقتصادية والمعيشية في البلاد إلى حدودٍ تذكِّر بحالة لبنان قرين تونس في التفرنس والنهوض منذ قرنٍ ونصف.

سُرّت الأحزاب السياسية الصغيرة في البداية بالتخلّص من تحدّيات حركة النهضة الكبيرة التي اتّهمها الرئيس العتيد بالفساد. ثمّ عندما لم يترك شيئاً إلّا وكسره سيطرت عليهم الكآبة من دون أن يجرؤوا على الاعتراض. ما كانت تونس في تاريخها الحديث أشدّ غرابةً منها الآن، في ظلّ غرابات الرئيس المتوالية. تونس سائرة بسرعة نحو انهيارٍ غير مسبوق، وبخلاف لبنان الذي تُسأل عن تصدّعه الطبقة السياسية برمّتها، فإنّ قيس سعيّد صار مسؤولاً وحده عن كلّ المصائب، في حين توارى الآخرون الفاعلون منذ العام 2011، ومن ضمنهم الفرنسيون وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد العمّالي التونسي.

 

مثال السودان: الجيش والتسلّط

إذا كانت الثورة التونسية قد حدثت للخروج من استبداد زين العابدين بن علي، فحدث عكس المتوقّع إذ انقفلت البلاد تماماً في زمن ديمقراطية قيس سعيّد الأوحدية بعد عشر سنوات، فإنّ الردّة استغرق حصولها أقلّ من ثلاث سنواتٍ في السودان، حيث ثار جمهور المدنيين والفئات الوسطى وسط انهيارٍ فظيع في 2018-2019. وعندما قارب نظام البشير على الانهيار تحت وطأة حراك الجمهور، تدخّل كبار ضبّاط البشير معلنين الانقلاب عليه والانضمام إلى الجمهور الثائر.

بعد شهور من التجاذبات وتدخّل وسطاء عرب وأفارقة ودوليّين، جرى “تركيب” إدارة مشتركة/ منقسمة من العسكر والمدنيين، وتشكّلت حكومة من العقلاء بالفعل برئاسة عبد الله حمدوك الآتي من المجال الدولي. بيد أنّ العسكر ما سار بالخطة إلى منتهاها، بل تدخّل فأقال الحكومة ومجلس السيادة وعمد إلى التقارب مع أعوان النظام السابق، ومع الإسلامويّين، ومع الحركات المسلّحة بدارفور وغيرها.

في فترة بسيطة عاد عسكر البشير إلى أسوأ فترات البشير وصحبه (!). إنّما الفرق مع تونس أنّ المدنيين ما خضعوا ولا انخدعوا وإن حصل انقسام. وتعبت البلاد بسرعةٍ أكبر لأنّ الدوليين قطعوا المساعدات عن السودان، والدول العربية تردّدت. سمعتُ مسؤولاً اقتصادياً عربياً يقول: “إن أعطيتَ شيئاً لا تدري لمن يذهب وكيف يُنفق”. وما وصلْنا بعد إلى مثل حالة لبنان: أن لا نعطي شيئاً إلّا للجهات المدنية العاملة على الأرض في الغذاء والدواء والمستشفيات والمدارس والجامعات والأحوال المعيشية. إنّما حالة السودان أصعب من حالتَيْ تونس ولبنان في كلّ المجالات بسبب الاضطراب القبلي المسلَّح، ولأنّ الجيش كلَّه تعوّد على السلطة ومناعمها وما عاد يستطيع مغادرتها.

لقد ضربتُ مثلاً بثلاثة بلدانٍ عربيةٍ صارت فيها حراكات شعبية واسعة وواعدة، ثمّ انتهت إلى العكس تماماً ممّا قصدته. بل إنّ الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية صارت أسوأ بكثيرٍ ممّا كانت عليه.

 

4 بلدان في الاضطراب

لدينا إلى ذلك أربعة بلدانٍ عربية يسيطر فيها الاضطراب من عشر سنواتٍ وأكثر: العراق وسورية وليبيا واليمن.

– العراق: زاده تصدّعاً الغزو الأميركي عام 2003، فلمّا خرج الأميركيون أورثوا البلاد للطبقة السياسية والإدارية الجديدة العاملة مع الإيرانيين. وزاد الوضع انهياراً ثوران السُنّة المتطرّفين في كلٍّ من سورية والعراق فازدادت مآسي القتل والتهجير الطائفية. وتأمّل العراقيون بعد ثوران شعبي كبير عام 2019 (مثل لبنان والسودان) أن يحدث تغيير كبير في الانتخابات المبكرة عام 2021، فكانت النتيجة انتكاسةً غير حاسمة لأنصار إيران، وانتصاراً غير حاسم لمقتدى الصدر، وهو ليس إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. فحلّت المراوحة محلّ الاستيلاء السابق، وتعطّل النظام المتكأكىء الذي يوشك أن يسقط. وكما في تونس، تعاظم بروز شخصية السيد مقتدى الصدر، الأشدّ غرابةً من قيس سعيّد! العراق لا تكاد تستره موارده البترولية الضخمة بسبب الفساد المتفاقم. وإلى ذلك عودة الانقسام مع الأكراد حول تقاسم الثروة البترولية بالذات، وتوالي القصف المدفعي وبالمسيّرات تارةً من جانب إيران وطوراً من جانب تركيا. وقبل ذلك وبعده صواريخ ومسيَّرات التنظيمات الإيرانية المسلّحة بالداخل العراقي. في لبنان تنظيم إيراني مسلّح واحد، أمّا في العراق فهناك عشرون على الأقلّ.

– سوريا: الوضع السوري أسوأ من الوضع العراقي بكثير. إذ منذ عام 2015 هناك ثلاث دويلات “رسمية” في البلاد: دويلة بشار الأسد، ودويلة الأميركيين والأكراد، ودويلة تركيا والمعارضة السورية. وهناك دويلات “غير رسمية” لروسيا وإيران في سائر المناطق التي يسيطر عليها النظام أو سيطر عليها بمساعدتهما. وهناك كما هو معروف مليون قتيل، واثنا عشر مليون مهجَّر بالخارج والداخل. ما حصل لسورية لم يحدث في أيّ بلدٍ بالعالم، فضلاً عن العالم العربي.

كنتُ في فتوّتي معجباً بكتيّب مترجمٍ عن سقراط عنوانه: “الرجل الذي جرؤ على السؤال”. وفي حالات سورية وليبيا واليمن يصحُّ العنوان: “الجمهور الذي جرؤ على المعارضة”. سقراط عوقب على جرأته بالإعدام، فهل المطلوب إبادة جماهير تلك البلدان لأنّها اعترضت سلماً على ما كان يجري عليها من عقودٍ وعقود؟!

ما عرف العالم الحديث نظاماً أغرب وأشدّ فتكاً من نظام أو “لا نظام” معمّر القذافي. إنّما عندما قتله الفرنسيون والأميركيون بحجّة حماية الناس، حلّت محلَّه في النهاية عشرات التنظيمات المسلّحة وبرؤوس وأسماء أو بأسماء بدون رؤوس! الانتخابات لا تفيد ولا الوساطات الدولية ولا الحكومات التي صارت واحدةً للوحدة الوطنية وأُخرى للإنقاذ!

– اليمن: ما حدث ويحدث لليمن وفي اليمن لا يكاد يُصدَّق. الواقع يقول: أنتم أيّها الناس مخيّرون بين خيارين أحلاهما مُرّ: إمّا الخضوع للحوثيين مثل خضوع اللبنانيين لحزب السلاح المتأيرن، أو الحرب الأهلية. وقد حصل الأمران ويحصلان حتى هذه اللحظة ولا نفْع للوساطات الدولية الطويلة المدى والأمد.

 

لماذا حصل كلّ ذلك ويحصل في سبعة بلدانٍ عربية؟

1- بالطبع التدخّلات الخارجية هي السبب الأول. وهي على صنفين أو درجتين: إقليمية ودولية. وهذه التدخّلات من نوعٍ جديدٍ إذا صحَّ التعبير، فهي ليست نفوذاً وحسب كما كان عليه الأمر في الحرب الباردة. بل هي تستند على الدوام إلى تنظيماتٍ مسلّحةٍ بالداخل للسيطرة وتثبيت النفوذ. وبالطبع فإنّ هذا التدخّل أو ذاك ما حصل إلّا نتيجة الهشاشة والضعف في مجتمعات البلدان أصلاً.

2- أمّا العامل الثاني فهو داخلي بحت إذا صحّ التعبير. فإذا كان المتدخّلون قد فرضوا أنفسهم بقوّة السلاح منذ البداية مثل الحال في العراق وسورية، ففي لبنان وتونس واليمن، عملت الفئات السياسية أو المتسيّسة عند المتدخّلين من أجل السلطة والفساد والنفوذ الموهوم وما تزال. وحتى الانتخابات (الحرّة) ما أمكن من خلالها إحداث تغيير رغب فيه الجمهور بشدّة، فعاد معظم أعضاء الطبقة السياسية القائمة وهم شديدو الفخار. ولننظر إلى نماذج عدّة في لبنان والعراق وحتى ليبيا. إنّ هذا يعني عقماً عميقاً حال دون ظهور فئاتٍ جديدة.

ولننظر أيضاً في السياق نفسه إلى العبثية التي تسود في النظام البرلماني الكويتي والعياذ بالله. فهل صحيح أنّ العرب والمسلمين “استثناء” وعندهم مناعة تجاه الحرّيات والاستقرار الهادئ؟

3- أمّا العامل الثالث فيتمثّل في الضعف العربي العام طوال ثلاثة عقود وأكثر، بحيث ما عاد هناك عمل عربي مشترك ولا مساعٍ قويّة لإنقاذ هذا البلد المضطرب أو ذاك. وهو أمر غير معتادٍ في عالم العرب بعد الحرب الثانية. هل هو “تعبُ المعادن” كما يُقال؟ لو كان الأمر كذلك لما كثرت حركات ومحاولات التغيير السلمية وغير السلمية.

ثلث الدول العربية مضطربة أو متصدّعة ومنذ مدّة. ولا فسحة للأمل من جهة النظام العربي أو النظام الدولي. عندما قامت روسيا بغزو أوكرانيا، ما وجد الأوروبيون نماذج للتخريب الشامل للتذكير بأهواله غير حلب وحمص والغوطة (!). وما ذكروا مثلاً ما فعله الأميركيون بالأنبار، وداعش بالموصل.

إقرأ أيضاً: الانتخابات المريرة وبدايات التغيير

إنّ الانقسام الدولي المتفاقم بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، والأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن كورونا وعن انسداد موارد النفط والغذاء أو تضاؤلها، كلُّ ذلك يشير إلى استمرار الأزمات وتفاقمها في المناطق الهشّة والضعيفة في العالم، وبينها سبعة بلدان عربية، والحبل على الجرّار!

مواضيع ذات صلة

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…

أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

لم يعرف الأكراد منذ أن وُجِدوا الاستقرار في كيان مستقلّ. لم يُنصفهم التاريخ، ولعنتهم الجغرافيا، وخانتهم التسويات الكبرى، وخذلتهم حركتهم القومية مرّات ومرّات، بقدر ما…