لبنان يصنّع الطائرات. عفواً. ميليشيا في لبنان، ولا نقول ميليشيا لبنانية، تصنّع المسيّرات الطائرة. وللتأكيد على ما قاله السيّد حسن نصرالله قبل أيام أطلقت “حسان” (وهو اسم المسيّرة). وللترويج لـ”الصناعة اللبنانية” الجديدة أعلن الحزب في بيان أنّها “جالت في المنطقة المستهدفة لمدّة أربعين دقيقة في مهمّة استطلاعيّة امتدّت على طول سبعين كيلومتراً”. وعادت “سالمة بعدما نفّذت المهمّة المطلوبة بنجاح”.
يجب الاعتراف أنّ الحزب ينجح في مهمّات كهذه. إنّها اختصاصه. فهو أوّلاً وأخيراً ميليشيا عسكرية. الفضل في نجاحه هذا يعود إلى نظام الملالي في إيران. هؤلاء هم الذين أسّسوا ودرّبوا وسلّحوا وجهّزوا. ويجب الاعتراف أنّهم نجحوا في بناء ميليشيات “مرتزقة” في البلدان العربية. ميليشيات محترفة وملتزمة دينياً بعقيدة ولاية الفقيه. ونجحوا في زعزعة استقرار العديد من البلدان العربية، الهشّة والمُزعزَعة أساساً. ولكن من قال إنّ من يُزعزع الدول وأنظمتها قادر على إدارة الحكم إذا ما نجح في الوصول إلى السلطة؟ ومن قال إنّ النجاح في بناء الميليشيات العسكرية سينسحب نجاحاً في بناء مجتمعات؟
مشكلة حزب الله أنّه لا يفكّر إلا بالمنطق العسكري. في حين أنّه يسيطر على لبنان ويسعى إلى حكمه بالقانون
بالعودة إلى حزب الله ومسيّرته. في الأيام المقبلة سيخرج علينا السيّد حسن نصرالله ليؤكّد لنا أنّ الهدف من المسيّرة هو إرساء معادلة ردع جديدة ضدّ إسرائيل: أيّ خرق للأجواء اللبنانية بالطائرات النفّاثة، سيقابله خرق للأجواء الإسرائيلية بالمسيّرات الطائرة. واستطراداً، ربّما أيّ غارة جوّيّة على لبنان، ستقابلها غارة مسيّرة على إسرائيل. وهنا يجب الإقرار أيضاً أنّ الحزب ليس من جماعة “اليوميّات” في التعاطي مع الأحداث. فهو يخطّط. يستعدّ. وينفّذ مختاراً التوقيت المناسب.
مشكلة حزب الله أنّه لا يفكّر إلا بالمنطق العسكري. في حين أنّه يسيطر على لبنان ويسعى إلى حكمه بالقانون. والأوطان لا تُحكَم بالمنطق العسكري، خاصة إذا كان هذا المنطق عسكرياً ميليشياوياً. ولا يقُل أحد لنا إنّ حزب الله لا يريد حكم لبنان. ففي شباط 2004 (قبل سنة على اغتيال رفيق الحريري)، وعلى هامش مناقشتي مع مسؤول كبير في الحزب عن العلاقات الشيعيّة – المارونية موضوع دراسة كنت أقوم بها، شبّه “مقاومة” حزب الله بالمقاومة الفرنسية، وقال: “حرام مقاومة حزب الله تكون في لبنان (عنى بذلك لبنان بتركيبته الطائفية). أقلّ شي نتسلّم الحكم كما تسلّمت المقاومة الفرنسية الحكم بعد دحر الألمان”. ولكن شتّان ما بين المقاومتين، هذا إذا افترضنا أنّ حزب الله هو “مقاومة” (بالنسبة لنا حزب الله، منذ تأسيسه، هو ميليشيا شيعيّة إيرانية. الهدف منها الوصول إلى الحكم لخدمة أهداف إيران التوسّعيّة في المنطقة. لذلك نضع “مقاومة” بين هلالين)، وذلك لعدّة أسباب:
– المقاومة الفرنسية أنشأها الفرنسيون وأعلنها شارل ديغول عبر أثير محطة BBC من أرض صديقة (بريطانيا). في حين أسّس الإيرانيون حزب الله على أرض لبنان.
اللبنانيون يريدون دولة. يريدون اقتصاداً. يريدون تجارة. يريدون سياحة. يريدون تعليماً. يريدون استشفاء. يريدون ازدهاراً
– المقاومة الفرنسية نسّقت عمليّاتها مع البريطانيين والأميركيين والروس لدحر الاحتلال النازي. فهي لم تكن مقاومة تابعة لا للبريطانيين ولا للأميركيين ولا للروس. وكان شارل ديغول يجلس إلى طاولة المفاوضات من النَدّ للنَدّ مع ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت وجوزف ستالين.
– المقاومة الفرنسيّة كانت مقاومة وطنيّة اسماً وفعلاً. لم تكن لا مقاومة كاثوليكية ولا بروتستانتيّة. في حين أنّ حزب الله هو ميليشيا تضمّ فقط الشيعة المؤمنين بولاية الفقيه. فهو ليس وطنيّاً شاملاً، ولا إسلاميّاً شاملاً، ولا شيعيّاً شاملاً، لا اسماً ولا فعلاً.
– كانت للمقاومة الفرنسية حاضنة شعبيّة منذ تأسيسها. كبُرت خلال سنوات النضال عندما رأى الفرنسيون نزاهة المقاومين ووطنيّتهم وفعّاليّة مقاومتهم للاحتلال. وبعد اندحار هتلر استُقبل شارل ديغول تحت قوس النصر التاريخي قائداً للأمّة الفرنسيّة كلّها. في حين أنّ حزب الله لم يكن له أيّ حاضنة شعبيّة حين أُسّس. حتى العشائر الشيعيّة البقاعية كانت تعارضه. وبعد 7 أيار فَقَد الحاضنة الشعبيّة اللبنانيّة التي كان قد حصل عليها خارج بيئته الشيعيّة.
– بعد انتصارها حلّت المقاومة الفرنسية نفسها. لم يبيعوا المقاومون أنفسهم وحياتهم وخبراتهم لدول وتنظيمات. استأنفوا حياتهم العادية. العسكريّون منهم عادوا إلى ثكناتهم. والمدنيون عادوا إلى مزاولة أعمالهم. في حين أنّ حزب الله، بعد انسحاب إسرائيل وانتهاء حرب تموز 2006 وصدور القرار 1701، راح ينخرط في حروب خدمةً لمشروع إيران التوسّعي. فذهب إلى سوريا، ومنها إلى العراق، ثمّ إلى اليمن. وغداً لا نعلم إلى أين! وطوّر ترسانته العسكرية بالصواريخ الدقيقة، وزاد عديده إلى 100 ألف مقاتل!! وها هو اليوم يكشف عن صناعة المسيّرات، ويعرضها للبيع!
– بعد انتصارها تسلّمت المقاومة الفرنسية الحكم في فرنسا، وأعادت بناء الاقتصاد الفرنسي المهدّم. وحرص شارل ديغول على أن يتمكّن الفرنسيون من أكل اللحم من جديد. في حين أنّ اللبنانيين في زمن سيطرة حزب الله على الدولة غاب اللحم عن موائدهم، وكذلك الدجاج والسمك. حتى الخضار والحبوب نادراً ما تدخل بيوتهم. وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ هذا هو حال الإيرانيين اليوم أيضاً، مع أنّ بلادهم تملك ثاني احتياط غاز في العالم، وثالث احتياط نفط. فلا ننخدع بأنّ ترسيم الحدود مع اليهود سيجعل عائدات الغاز والنفط تنزل علينا كما هبط المنّ والسلوى على اليهود في صحراء سيناء.
إقرأ أيضاً: الحزب طائراً.. رسائل متعدّدة الاتجاهات
فما أنت فاعل يا سيّد؟ اخرج من منطق الميليشيا إلى منطق الدولة. فاللبنانيون يريدون دولة. يريدون اقتصاداً. يريدون تجارة. يريدون سياحة. يريدون تعليماً. يريدون استشفاء. يريدون ازدهاراً… اللبنانيون يريدون صناعة الحياة لا صناعة المسيّرات.