أوكرانيا: فوكوياما يخسر.. هانتغتون يتقدّم.. ماذا عن شكسبير؟

مدة القراءة 5 د

تثاءب فرانسيس فوكوياما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأعلن “نهاية التاريخ”. بدا له أن لا منافس أيديولوجيّاً للغرب الليبرالي ولا حياة لمغامر يقاوم حركة التاريخ بالاتجاه الذي نظّر له عتاة الرأسمالية ضدّ الشيوعية والاشتراكية، ولا نجاة لمن يشتهي تحدّي سلطة رأس المال والعلمنة.

صدق الرجل. لم تعد الماركسيّة وما روّجت له داخل نصف الكرة الأرضية نقيضاً مقلقاً لنصف الكرة الآخر. باتت الشيوعية بمعناها الدولتي من التاريخ، وربّما من رومانسيّات التاريخ. بيد أنّ روسيا التي كانت شيوعية بقيت نقيضاً حتّى بعدما غادرتها السوفياتية، مثلها مثل الصين التي لم يغادرها الحزب الواحد واستمرّت نقيضاً. لكنّ الذي تغيّر أنّ أدوات هذا التناقض باتت رأسمالية شرسة، وربّما على نحو أشدّ ممّا يُمارَس في معاقل الرأسمالية التقليدية نفسها.

عادت موسكو بزعامة فلاديمير بوتين لتكون خصماً حقيقياً وازناً للغرب. أكثر من ذلك أطلّ بوتين يجرجر وراءه طموحاً لاستعادة الإمبراطورية الروسية في حكايتها الشيوعية وقبلها القيصرية

جاء صامويل هانتنغتون لنجدة صديقه الضجِر فوكوياما. بشّره بـ”صراع الحضارات”. يسَّر الأمر وفسّر صنوفاً جديدة من الصراع، سواء لتحرير الكويت من الغزاة، أو إزالة الديكتاتورية من العراق، أو إسقاط نظام يوغوسلافيا وتشتيتها إلى عدّة دول، أو مواجهة الإرهاب بنسخة القاعدة، ولا سيّما منذ “غزوة” 11 أيلول، ثمّ بنسخة داعش وما بينهما.

عادت موسكو بزعامة فلاديمير بوتين لتكون خصماً حقيقياً وازناً للغرب. أكثر من ذلك أطلّ بوتين يجرجر وراءه طموحاً لاستعادة الإمبراطورية الروسية في حكايتها الشيوعية وقبلها القيصرية. لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تتجاهل التحدّي الروسي وتستصغره مقارنة بالأولويّة الوجودية في الصراع مع الصين. أسقط رجل روسيا القويّ في الأيام الأخيرة ذلك الترف الفكري الغربي الذي كان يعوّل على هامشيّة روسيا لدرجة التعويل عليها عنصراً كامناً وشريكاً في “الجهاد” ضدّ الصين.

باختصار الرأسماليّات تتصارع. تلك الصاعدة المتمدّدة التي تحفر “طريق الحرير” من الصين، أو تلك التي تطلّ بها روسيا فتروح تحقن في أوردة الاقتصادات الكبرى مالاً روسيَّ الهويّة. صحيح أنّ الصين تُغرق العالم بصناعاتها، وروسيا تبيع العالم سلاحاً وطاقة، وصحيح أن لا جدال أيديولوجيّاً بين الأقطاب، إلا أنّ التنافس داخل الأسواق عجّل في تفجير الصدام، كما تكشف حرب أوكرانيا. وقد يفرض لاحقاً شكلاً آخر من النزال مع الصين لن تكون تايوان إلا إحدى واجهاته.

 

نبوءتان تحقّقتا؟

يؤكّد الحدث الأوكراني نبوءتين:

1- تلك التي استشرف فيها فوكوياما انتهاء تصارع الأيديولوجيات وأنهى بناء على ذلك “التاريخ”.

2- وتلك التي استشرف فيها هانتنغتون “صراع حضارات”، كذلك الذي حاضر بوتين به منذ أيام، عندما أدلى بمقدّمة تاريخية سياسية لحربه في أوكرانيا نافخاً في حضارة بلاده وضآلة حضارة خصومه.

ولئن راجت في بدايات القرن العشرين نظريّات تفوُّق الأجناس البشرية التي حملها إلى السلطة خطاب المحروميّة والظلم الذي عانت منه ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فإنّ في حراك الزعيم الروسي ترويج لنظريّة “تفوُّق الأمم”، محمولةً أيضاً على أكتاف مظلوميّة أخرى عانت منها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

العالم يعيش لحظة تاريخية بامتياز. عرفت الولايات المتحدة تلك اللحظة في أربعينيّات القرن الماضي

ما هو واضح في هذا الصراع هو ما يريده بوتين لروسيا. وما هو مرتبك متلعثم محيّر هو ما يريده الغرب بالمقابل. سقوط فوكوياما يعني أنّ الغرب يفقد السباق واحتكاره الزعامة والصدارة والتفوّق. وصحوة هانتنغتون تعني أنّ في الأمر صراعاً، فإمّا أن لا يصارع هذا الغرب ويقبل بالأمر الواقع الجديد فينخرط في إدارته راضياً بحصّته، أو أن ينغمس في هذا الصراع للحفاظ على الصدارة ونجدة فوكوياما بهذه المناسبة.

العالم يعيش لحظة تاريخية بامتياز. عرفت الولايات المتحدة تلك اللحظة في أربعينيّات القرن الماضي. استفاقت اليابان وبدا أنّها تشكّل تهديداً حضاريّاً لأميركا بما يحتاج إلى الصراع. أنهت واشنطن مأزقها باستخدام القنبلة النووية ضدّ هيروشيما وناكازاغي، فأنهت الصراع وربحت النزال. كان ذلك حين لم يمتلك غيرها تقنيّة التدمير الشامل هذه. أمر لم يعد وارداً بعدما باتت القنبلة في متناول أيدٍ كثيرة.

المأزق حقيقي. يبدو الردع النووي مشلولاً لأنّه ردع متبادَل. ويبدو الصدام العسكري المباشر مدمّراً للجميع. يملك الغرب سلاح الاقتصاد للفتك باقتصاد روسيا، وتملك روسيا الهرب من هذا السلاح إلى الإمام بفتح جبهات والتهديد بحروب. وفي غياب الدين والأيديولوجيا العقائدية سيسهل على موسكو شراء الوقت وهزّ عصا ما تملكه من سطوة على عصب الطاقة لتُحدث شقوقاً في جدار وحدة الغرب. وفيما يتلعثم قرار الغرب الذي يعرقله تعدّد أطرافه، فإنّ في روسيا قراراً واحداً يصدر عن زعيم لا شريك له.

 

صراع خارج الأخلاق

ما لا جدال فيه هو أنّ هذا الصراع بلا أخلاق ولا قضيّة. لا يصدّق الروس أنّ بلادهم في خطر يحتاج إلى حرب ضدّ العالم. يجهد صاحب هذا المشروع في اختراع أخطار والترويج لإبادة جماعية لا يستطيع تسويقها.

إقرأ أيضاً: بوتين يخسر… المقامرة المتهوّرة

في المقابل فإنّ الغرب المدافع عن الحرّيات والديمقراطية وسيادة الشعوب يظهر مكشوفاً محتاراً عاجزاً عن الدفاع عن استقلال وسيادة حليف حائر بين رؤيتين. تيّار يسلك مساراً يشبه ذلك الذي ارتكبته فرنسا وبريطانيا وإيطاليا مع أدولف هتلر حين تنازلت له في اتفاق ميونيخ الشهير عام 1938 عن منطقة “السوديت” التابعة لتشيكوسلوفاكيا. وضع هتلر المعاهدة في جيبه واجتاح أوروبا بعد عام. وتيّار بدأ يستيقظ بغضب ويدرك خطورة طموحات بوتين وقدرتها ويدفع إلى الردّ الصاعق مهما كانت أوجاعه.

يقلّب الغرب نصوص فوكوياما ثمّ نصوص هانتنغتون. غير أنّ بوتين يقلّب نصوص شكسبير فتأسره صرخة الأمير هاملت: “أكون أو لا أكون”.

 

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…