إذا كان خروج أميركا بقيادة دونالد ترامب من الاتفاق النووي الأوّل متوقّعاً، فهل يكون مرجّحاً خروجها من الاتفاق الثاني في حال وقّعه جو بايدن؟
يعكس الأمر حقيقة انتقال العلاقة بين أميركا وإيران من سياسة الاحتواء والاستمالة إلى المواجهة، فيكون الاتّفاق أقرب إلى هدنة لتجهيز ميدان المواجهة، سلماً أو حرباً.
بمعزل عن تفاصيل الاتفاق غير الواضحة بعد، يمكن قراءة بعض المعطيات والحقائق التي تشير إلى صعوبة توقيع الاتفاق، وترجيح نقضه إذا وُقع:
1- قد يكون الاتّفاق ضيّقاً ومحدوداً في مدّته ومتواضعاً في أهدافه، بعكس الاتّفاق الأوّل، فيقتصر على تقييد أنشطة التخصيب الإيراني سنوات ثلاث، وتأخير عتبة الوصول إلى السلاح النووي لمدّة تراوح بين 6 إلى 9 أشهر، علماً أنّ هذا التأخير كان في الاتفاق السابق 12 شهراً، وكانت مدّة القيود المفروضة على البرنامج النووي 20 عاماً. أمّا بالنسبة إلى إيران فتتمثّل الأهداف برفع جزئي للعقوبات عن عدد من المصارف والمؤسّسات، وتصدير إنتاجها النفطي بأسعار السوق بدلاً من تهريبه وبيعه بحسومات عالية. في حين تضمّن الاتفاق الأوّل رفعاً شبه شامل للعقوبات، وتحرير صادرات النفط والغاز، وفتح الأبواب لتدفّق الاستثمارات، وتحرير جانب كبير من الأصول الإيرانية المجمّدة. والأهمّ من ذلك كلّه غضّ النظر عن أنشطة إيران التوسّعية في دول المنطقة.
قرأت إيران وفهمت “رسالة” تراجع إدارة بايدن عن إحياء الاتفاق النووي، ومفادها أنّ الحزب الديمقراطي، كما الجمهوري، ليس بوارد تقديم المزيد من الجوائز لها، وأنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت
فشل سياسة احتواء إيران
محدوديّة الاتفاق تجعل تبادل التنازلات شبه مستحيل. فلا أميركا مستعدّة لتقديم المزيد من الجوائز المجّانية لإيران، ولا إيران مستعدّة لتقديم الهدايا لأميركا بتقليص نفوذها الإقليمي والتضحية بأذرعها بدون مقابل. بهذا المعنى يشكّل الاتّفاق سقف العلاقة بين أميركا وإيران، بينما كان الاتّفاق الأوّل، تبعاً لجملة محمد جواد ظريف الشهيرة: “الأرضيّة التي يُبنى عليها لتحقيق تفاهم أكبر بين البلدين”.
2- اقتناع الدولة العميقة في أميركا بفشل سياسة تقوية إيران لمواجهة التطرّف السنّيّ، ثمّ احتوائها واستمالتها. وهي السياسة التي بدأت في عهد جورج بوش الإبن بعد أحداث 11 أيلول 2001، وبلغت حدّها الأقصى في عهد باراك أوباما والاتّفاق النووي 2015، وأدّت إلى تدمير حواضر السُنّة وتشريد أهلها من 2012 إلى اليوم. يستند هذا التغيّر إلى قناعة أخرى باستحالة حدوث تغيير في السياسة الإيرانية تجاه أميركا والتخلّي عن شعار “الشيطان الأكبر”، لأنّ هذه السياسة باتت جزءاً من التركيبة العميقة للنظام ومكوّناً رئيسياً في عناصر قوّته ومبرّرات وجوده.
3- ترسُّخ القناعة بأنّ “اتّفاق أوباما” ألحق بقوّة أميركا أضراراً جيوسياسيّة عميقة تمثّلت في استخدام إيران الأموال الناجمة عن الاتفاق لتوسيع نفوذها إلى مستويات غير مقبولة وغير متّفق عليها أدّت إلى استفزاز حلفاء أميركا التقليديين ودفعهم إلى بناء علاقات سياسية واقتصادية مع الصين وروسيا لحماية مصالحهم. وترافق ذلك مع فشل إيران في ترسيخ نفوذها من اليمن والعراق إلى سوريا ولبنان، بل بالعكس يشهد هذا النفوذ تراجعاً مطّرداً. وهذا يعني أنّ إيران لم تعُد تشكّل بالنسبة إلى أميركا “جائزة جيوسياسية جذّابة تبرّر تقديم التنازلات لها”، كما جاء في تقرير لمجلّة “فورين أفيرز”.
4- تُرجمت هذه القناعات المستجدّة بتلكّؤ بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي، على الرغم من إعلانه الصريح خلال حملته الانتخابية عن العودة السريعة وغير المشروطة إلى الاتفاق فور انتخابه. لكنّه اعتمد بدلاً من ذلك التريّث مدّة عامين كاملين ركّز خلالهما على التشاور مع إسرائيل والدول العربية المعارِضة أصلاً للاتّفاق، مع الإبقاء على العقوبات كما هي. ولم يوافق على إحياء المفاوضات إلّا تحت ضغط رفع إيران مستويات التخصيب واقترابها من عتبة السلاح النووي، ليكون الهدف كسب الوقت لا تغييراً في السياسات.
تراهن إيران على تشكُّل نظام دولي متعدّد الأقطاب، يجعل مصالحها مرتبطة بالانضواء ضمن المعسكر الصيني الشرقي، وليس ضمن المحور الأميركي الغربي، الأمر الذي يوفّر لها فرصة التحوّل إلى قوة إقليمية كبرى
نتائج عدم حماسة أميركا للاتفاق
لدى إيران معطيات عدة تدفعها في اتّجاه عدم حماستها لتوقيع الاتّفاق أو لتوقّع نقضه:
– قرأت إيران وفهمت “رسالة” تراجع إدارة بايدن عن إحياء الاتفاق النووي، ومفادها أنّ الحزب الديمقراطي، كما الجمهوري، ليس بوارد تقديم المزيد من الجوائز لها، وأنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت. وسيكون الاتفاق الجديد في أحسن الاحتمالات مرتبطاً ببقاء الديمقراطيين في البيت الأبيض، في ظلّ التزام القادة الجمهوريين علناً بنقضه في حال الفوز في انتخابات العام 2024.
– ذلك ما يفسّر تمسّك إيران خلال المفاوضات بالحصول على ضمانات بعدم انسحاب أميركا من الاتفاق، مع علمها أنّ الحصول على ضمانات كهذه شبه مستحيل، وأنّ الضمانة الحقيقية هي وجود مصالح سياسية وتجارية واستثمارية للشركات الأميركية في السوق الإيرانية تشكّل قوى ضغط (لوبي) تعارض تكرار تجربة انسحاب دونالد ترامب منه. وذلك أمر لم يعد وارداً حاليّاً، أو لنقل إنّه بات بعيد المنال.
– قرأت إيران وفهمت رسالة ثانية: السياسات الأميركية لا تتغيّر بتغيّر الرؤساء، وبايدن يستكمل ما بدأه ترامب لناحية إعادة بناء شبكة تحالفات أميركا في العالم لمواجهة الصين، ولمواجهتها (إيران) في المنطقة. وتجلّى ذلك في دعم بناء محور يضمّ تركيا ومصر والسعودية وباقي دول الخليج. ووصل الأمر إلى الترويج لفكرة إقامة حلف (ناتو) عسكري شرق أوسطي ضدّها. يُضاف إلى ذلك طبعاً دعم إسرائيل في هجماتها على الميليشيات المؤيّدة لإيران في سوريا، ودعم الاغتيالات الغامضة لرموز البرنامج النووي داخل إيران. ولم يكن من قبيل الصدفة إصدار وزارة الخارجية الإيرانية بياناً لمناسبة الذكرى الثانية لاغتيال قاسم سليماني، جاء فيه أنّ “الإدارة الحاليّة برئاسة جو بايدن تتحمّل أيضاً مسؤوليّة قرار الاغتيال”.
– تدرك إيران عجز أوروبا عن حماية الاتّفاق على الرغم من أنّها ستكون المستفيد الأكبر منه، سواء على صعيد توفير واردات إضافية من النفط والغاز أم على صعيد فتح السوق الإيرانية أمام الشركات الأوروبية، لأنّ هذه الدول وشركاتها لا يمكنها المخاطرة بالتعرّض للعقوبات الأميركية. وتدرك أيضاً أنّ الدول العربية والإقليمية لن تذهب بعيداً في الدبلوماسية المتوازنة التي اعتمدتها، سواء المتعلّقة بتحسين العلاقات مع الصين وروسيا أو مع إيران، في حال تبيّن أنّ الولايات المتحدة جدّيّة وحاسمة في معارضة إيران ومواجهتها. وتجدر هنا ملاحظة المعارضة “الخفيفة” من قبل الدول العربية للاتفاق الثاني مقارنة بمعارضتها الشديدة للاتّفاق الأوّل.
تموضع إيران في المحور الصينيّ
– تراهن إيران على تشكُّل نظام دولي متعدّد الأقطاب، يجعل مصالحها مرتبطة بالانضواء ضمن المعسكر الصيني الشرقي، وليس ضمن المحور الأميركي الغربي، الأمر الذي يوفّر لها فرصة التحوّل إلى قوة إقليمية كبرى، ويمكّنها من ترسيخ نفوذها في بعض الدول العربية، وفرض علاقات اقتصادية وتجارية مع دول عربية أخرى، إضافة إلى الرهان على حاجة الدول الأوروبية إلى النفط والغاز الإيرانيَّين للالتفاف على العقوبات الأميركية.
– تأكّدت إيران أنّ أقصى ما يحقّقه الاتفاق بصيغته الحالية هو توفير قدر من الأموال الإضافية التي يمكن التضحية بها، وهي تنحصر بالوصول إلى حوالي 8 مليارات دولار محتجزة في كوريا الجنوبية من إجمالي الأصول المجمّدة المقدّرة بحوالي 144 مليار دولار. هذا إضافة إلى تحقيق وفر في فاتورة الاستيراد يُقدّر بحوالي 12 مليار دولار سنوياً، لأنّ إيران تستورد حاليّاً البضائع بسعر أعلى بنسبة 20 في المئة تقريباً بسبب العقوبات.
إقرأ أيضاً: خريطة إيران العربية(3): فصل النووي عن البالستي عن الميليشيات
أمّا في ما يتعلّق بصادرات النفط والغاز فهناك مشاكل جدّيّة تُعيق زيادة الصادرات، أبرزها تدهور صناعة النفط بعد عقود من الفشل في توفير الاستثمارات اللازمة لتطوير مرافق الإنتاج والتكرير والتصدير وتحديثها. حتى إنّ إيران لا تستطيع حاليّاً توفير احتياجاتها من الغاز على الرغم من أنّها ثاني دولة في العالم من حيث الاحتياطيات المثبتة. وعليه تبلغ طاقتها التصديرية القصوى حوالي 2 مليون برميل يومياً، فيكون إجمالي صادراتها خلال العام الأوّل للاتّفاق بحدود 34 مليار دولار تُضاف إلى رقم مماثل تحصِّله من بيع النفط المهرّب.
يبقى السؤال: هل يصمد الاتفاق إذا وقِّع أصلاً، أم يكون هدنة قد تتحوّل إلى تسوية، أو وقتاً مستقطعاً وحسب، استعداداً لجولة جديدة من الصراع بعد أن تكون أميركا قد استكملت تجهيز ميدانه ورسّخت تحالفاتها وتحرّرت من عبء الحرب الروسية على أوكرانيا؟