تونس الآن.. رايتا جند الخلافة وديغول

مدة القراءة 5 د

قبل ثورة الياسمين التونسية كان عدد الأسر المحتاجة في تونس نحو 300 ألف أسرة، وبعدها بسنوات عشر ارتفع العدد إلى نحو مليون أسرة. هكذا يمكن إيجاز مسار الفقر.. قبل الربيع وبعده.

 

الأزمة في كل مكان

بدتْ الحياة في تونس أكثر صعوبة في أعقاب جائحة كورونا وحرب روسيا على أوكرانيا. فمن هذه الأخيرة يأتي أغلب الغذاء إلى البلد الذي يسكنه 12 مليون نسمة، نصفهم تحت خطّ الفقر.

مظاهر الأزمة في كلّ شيء وفي كلّ مكان: غلاء وجبة الإفطار وارتفاع أسعار جبنها والبيض والزيت. والمقاهي رفعت أسعارها أيضاً بسبب أسعار السكّر. كما أدت الأزمة إلى توقّف مصانع المياه الغازية، وارتفاع أسعار المشروبات الساخنة.

الدولة بدورها لا تملك خيارات كثيرة، فلقد ارتفعت فاتورة الالتزامات كثيراً في العقد الفائت. واليوم لم تعد رواتب الموظفين الحكوميين تُصرف في موعدها، ووصل الدين العامّ إلى 40 مليار دولار. وحسب مؤسّسة مورغان ستانلي قد تواجه تونس الإفلاس، بسبب احتمالات عجزها عن سداد الدين. وهي في ذلك تقع مع أوكرانيا والسلفادور في المستوى ذاته!

شأن الإرهاب الأسود في العالم الإسلامي، تكرّرت أعمال القتل والذبح، ومثلما جرى في مناطق أخرى

عقبة بن نافع.. المسجد والكتيبة

قبل 14 قرن قام القائد الإسلامي عقبة بن نافع بفتح تونس، وفيها بنى مدينة القيروان في العام الخمسين للهجرة. كانت تونس تسمّى “إفريقية”، وكانت جزءاً من ولاية مصر، ثمّ انفصلت في عهد معاوية، وأصبح عقبة بن نافع والياً عليها.

عاش عقبة بن نافع في مصر 13 سنة، لكنّ أثره الكبير بقى في تونس، وما يزال مسجده في القيروان أحد أقدم المساجد في العالم وأجملها.

في القرن الحادي والعشرين أعاد المتطرّفون استخدام اسم القائد الكبير عقبة بن نافع، فأطلقوه على تنظيم إرهابي أصبح جزءاً من “القاعدة”، ثمّ ذهب أغلبه إلى “داعش”.

ظهر تنظيم القاعدة في تونس في عام 2011 عقب “ثورة الياسمين”، وكانت أولى العمليّات الإرهابية في مدينة القصرين، حيث استقر التنظيم في جنوب غرب البلاد، على الحدود مع الجزائر.

شأن الإرهاب الأسود في العالم الإسلامي، تكرّرت أعمال القتل والذبح، ومثلما جرى في مناطق أخرى، ذبح بعض الجنود وهم يشرعون في تناول الإفطار عقب أذان المغرب في شهر رمضان عام 2013. ثمّ توالت عمليّات القتل، من متحف باردو في العاصمة، إلى منتجع شاطئ في سوسة.

رايتا البغدادي وشارل ديغول

في عام 2014 بدأت موجة مبايعات من إرهابيّي تونس لزعيم “داعش” أبي بكر البغدادي. كان التونسيون أكبر فصيل عربي في “داعش” سوريا والعراق، وكانت التونسيّات يمثِّلن العدد الأكبر في التنظيم الإرهابي المتعدّد الجنسيّات.

في ربيع عام 2015 حاول الإرهابيون إقامة إمارة داعشيّة موالية للبغدادي في مدينة بن قردان قرب الحدود الليبية، وقد كانت محاولة تأسيس الإمارة أكبر خطر هدّد الدولة التونسية منذ الاستقلال.

اعتمد تنظيم القاعدة اسم “تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي – فرع تونس”، ثمّ استحضر تاريخ الفتح الإسلامي في القرن السابع، فأصبح “كتيبة عقبة بن نافع”. كلا التنظيمين عاد إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين وبداية العهد الأموي، أحدهما اعتمد اسم الولاية، والآخر اعتمد اسم الوالي.

كان لافتاً في بيانات دواعش تونس عبارة “لنعمل على رفع راية البغدادي، وتمزيق راية نابليون بونابرت وشارل ديغول”، وكأنّ الإرهاب هو بديل الاحتلال!

نجح “داعش” تونس في تجنيد أعداد كبيرة، وكان اعتناق المجنّدين أفكار التنظيم غريباً وصادماً. وفي ربيع عام 2021، وبينما أوشك الأمن التونسي على إلقاء القبض على أسرة داعشيّة، قامت الزوجة بتفجير حزام ناسف، فكان أن قُتلت هي ورضيعها الذي تحمله!

ثنائية النهاية: الإرهاب والفقر

تمكّن الإرهابيون من تجنيد ألوف التونسيّين وتسفيرهم تحت وطأة الفقر والبؤس. لكنّ قوات الأمن نجحت في القبض على جناحهم الإعلامي عام 2015، وهلى جناحهم النسائي عام 2021، وقبل أيام جرى قتل ثلاثة من قادة التنظيم من بينهم نائب الأمير.

لقد صُدِم التونسيّون بعدما ألقت القوات الأمنيّة القبض على الخليّة الأخيرة، وعثرت على قنابل، أحزمة ناسفة، مخازن أسلحة، وألوف الطلقات.

يبدو أنّ التنظيم الذي يُطلق على نفسه اسم “جند الخلافة” لم ييأس بعد، على الرغم من كلّ الضربات التي واجهها، ولم يهتدِ بعد، على الرغم من كلّ ما ظهر لأعضائه من فساد العقيدة واختلال العقل.

إنّ “أجناد الخلافة” ليس لهم من اسمهم نصيب. فلا هم جند ولا أصحاب خلافة، بل هم مرتزقة ومأجورون، لا يعنيهم إحياء حضارة أو بناء أمّة.. كلّ غايتهم المال والتنظيم وصغائر الحياة الدنيا.

تواجه تونس وحشَيْن كبيرَيْن: الإرهاب واقتصاد الفقر. يريد تحالف “الإرهاب” و”الفقر” أن ينهي ذلك البلد الرائع الذي لطالما كان موطناً للثقافة والحضارة.

إقرأ أيضاً: خطيئة في حقّ تونس!

تمثّل حركة النهضة الإخوانية الجهاز السياسي الكبير الذي يعمل على تغذية ثنائية النهاية هذه في تونس، حيث لا أمن ولا اقتصاد. لقد انتعشت حركة النهضة على أنقاض ثورة الياسمين، وهي تنتظر لحظة أنقاضٍ جديدة لتقف أعلى التلّ، وتنعمَ بالانهيار.

يجب أن لا نعطي فرصة لِمن يريدون لمستقبل تونس ألّا يجيء.. تبدأ النهضة بهزيمة النهضة.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…