بعلبك الحزب.. بدل مهرجانات بعلبك

مدة القراءة 5 د

من مهرجانات بعلبك بروعتها وعالميّتها التي انطلقت في عهد الرئيس كميل شمعون… إلى متحف جنتا الذي أقامه الحزب في منطقة بعلبك، رحلة استغرقت أربعين عاماً هي اختزال لانتصار ثقافة الموت على ثقافة الحياة في لبنان في عهد ميشال عون.

ليس متحف جنتا، وهو موقع عسكريّ كان في الماضي تابعاً لحركة “أمل” تدرّب فيه مقاتلو الحزب على يد “الحرس الثوري” الإيراني في البداية، سوى تجسيد لهذا الانتصار لثقافة الموت. بات الانتصار على لبنان في حاجة إلى متحف.

مات فريد مكاري يائساً. غدر به المرض. عزاؤه أنّه رفض انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بعدما عرفه جيّداً… لكنّه عرف مسبقاً أنّ عهده لن يكون سوى “عهد الحزب” ولا شيء آخر غير ذلك

يحتفل الحزب، عبر متحف جنتا، ببداية نشاط “الحرس الثوري” في لبنان في مثل هذه الأيّام من العام 1982 بعد أسابيع قليلة من الاجتياح الإسرائيلي. عمليّاً، يحتفل الحزب بتكريس الاحتلال الإيراني للبنان في سنة 2022. لا يدلّ على مدى عمق هذا الاحتلال أكثر من حال الانسداد السياسي التي يعيش في ظلّها لبنان حيث رئيس مكلّف تشكيل حكومة، هو نجيب ميقاتي، لا يستطيع القيام بالمهمّة المناطة به بموجب الأصول الدستوريّة. سينعكس هذا الانسداد قريباً جدّاً على انتخابات رئيس الجمهوريّة. سيكون ممنوعاً انتخاب رئيس للجمهوريّة لا يوافق عليه الحزب ويحصل منه على الضمانات المطلوبة، تماماً كما حصل مع الثنائي ميشال عون – جبران باسيل في المرحلة التي سبقت وصولهما إلى قصر بعبدا في 31 تشرين الأوّل 2016.

يؤكّد عجز نجيب ميقاتي عن تشكيل حكومة بسبب شروط يسعى رئيس الجمهورية ميشال عون إلى فرضها، بتوجيه من صهره جبران باسيل، أنّ الحياة السياسيّة في لبنان صارت معلّقة. ما ليس معلّقاً هو نشاط الحزب المصرّ على تغيير طبيعة لبنان وطبيعة المجتمع اللبناني في ضوء نجاحه في إفقاره، عبر دفع النظام المصرفي إلى الانهيار وضرب كلّ مقوّمات وجوده، فضلاً بالطبع عن عزله عربيّاً ودوليّاً.

لا يعني المتحف الذي أقامه الحزب في بعلبك، كرمز لـ”المقاومة”، سوى الإصرار على الخلاص من لبنان نهائيّاً. نجح الحزب، ومن خلفه إيران، في ذلك نجاحاً منقطع النظير. الدليل أن ليس في لبنان مسؤول واحد يجرؤ على قول كلمة يعلِّق بها على افتتاح متحف جنتا الذي يشير إلى أنّ الحزب لم يعُد يخفي أنّه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلد، وأنّه بات قادراً على الجمع بين كلّ السلطات في يده.

ليس متحف جنتا سقوطاً للبنان وتأكيداً لانتصار الحزب عليه، بمقدار ما أنّه دليل على أنّ لبنان الذي عرفناه لم يعُد قائماً في غياب مشروع سياسي بديل من مشروع إيران. استطاعت إيران ملء كلّ الفراغات اللبنانيّة بعد نجاح الحزب  في الحلول مكان الوصاية السوريّة. ما كان عمليّة مشتركة إيرانيّة – سوريّة استهدفت التخلّص من رفيق الحريري في العام 2005، كشفتها المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان، تحوّل إلى انتقال لبنان من الوصاية السوريّة إلى الاحتلال الإيراني. بدأ هذا الاحتلال يأخذ في هذه الأيّام شكلاً أكثر علانيّة ووضوحاً مع كلّ خطاب يلقيه الأمين العامّ للحزب حسن نصرالله الذي لم يعُد يتردّد في الخوض في موضوع ما يسمّى “الدولار الجمركي” والسعر المناسب لهذا الدولار بالليرة اللبنانيّة. بات حسن نصرالله مرجعيّة في كلّ شيء لبناني أو عربي أو دولي، وفي كلّ موضوع محلّي مهما كان صغيراً أو كبيراً، أي من الدولار الجمركي… إلى ترسيم الحدود مع إسرائيل!


يُفترض باللبنانيّين البحث عن مشروع سياسي يواجهون به الاحتلال الإيراني. لم يكن رفيق الحريري الذي تخلّص منه الحزب بغطاء سوريّ، سوى صاحب مشروع سياسي يتناقض تماماً مع ثقافة الموت التي فرضتها إيران على لبنان انطلاقاً من البقع التي يسيطر عليها الحزب بإحكام في الجنوب وبيروت والبقاع. مع تغييب رفيق الحريري، لم يعُد الخروج بمشروع سياسي عمليّة سهلة في ضوء فشل الانتخابات النيابيّة الأخيرة في إحداث أيّ تغيير حقيقي نظراً إلى أنّها أُجريت بموجب قانون صاغه الحزب على قياسه.

نعم، لن يكون سهلاً الخروج بمثل هذا المشروع السياسي في ظلّ التركيبة الحالية لمجلس النواب وفي غياب أيّ اهتمام عربي أو دولي بلبنان الذي يُعتبر، من وجهة نظر دول عربيّة فاعلة، بلداً ساقطاً عسكريّاً وسياسيّاً.

يصعب الكلام بأيّ حدّ أدنى من التفاؤل عن مستقبل لبنان وإعادة تركيبه. بعلبك الحزب حلّت مكان مهرجانات بعلبك. إنّها أيّام حزينة بالفعل تفتقد بهجة الحياة، أيّام يموت فيها خيرة اللبنانيين من أمثال النبيل والصادق والوفيّ فريد مكاري (أبو نبيل) أحد رفاق رفيق الحريري. إنّها أيّام تجلب الحزن والأسى، خصوصاً عندما يتذكّر المرء كلاماً لفريد مكاري قاله بُعَيد مواراة رفيق الحريري الثرى في بيروت.

كنت يومذاك في حديقة منزل الحريري الأب في قريطم، مع زميلي وصديقي نهاد المشنوق، عندما تقدّم “أبو نبيل” ليقول عن رفيق الحريري: “كان قادراً على حمل البلد كلّه على كتفيه، لكنّ البلد كلّه لم يتمكّن من حمله”.

إقرأ أيضاً: السيّد يلتفّ على برّي: إعدام اتّفاق الإطار؟

مات فريد مكاري يائساً. غدر به المرض. عزاؤه أنّه رفض انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بعدما عرفه جيّداً… لكنّه عرف مسبقاً أنّ عهده لن يكون سوى “عهد الحزب” ولا شيء آخر غير ذلك. عهد متحف جنتا وبعلبك الحزب بدل مهرجانات بعلبك!

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…