تشكّل محاولة اغتيال الكاتب البريطاني من أصول هندية كشميرية سلمان رشدي مناسبة لإلقاء الضوء على خطورة الإرهاب الخمينيّ، وإماطة اللثام عن الارتباط الوثيق بين العقل العميق لنظام الملالي ومنابع الفكر التكفيري الذي يحاربه العالمان الغربي والإسلامي منذ حوالي ثلاثة عقود. ومع أنّ الغرب يحصر الفكر التكفيري بالسُنَّة فقط، إلّا أنّ النسخة الشيعية الخمينيّة تُعدّ أخطر بكثير.
لنراجع التهديد بالقتل الذي تلقّاه منذ أسابيع قليلة الكاتب المصري المثير للجدل إبراهيم عيسى، ببيان رسمي أصدره تنظيم القاعدة على خلفيّة إحدى حلقات برنامجه على قناة “الحرّة” الأميركية وعنوانه “مختلَف عليه” يدلّ على مضمونه، يشير إلى أنّ طهران باتت عاصمة الإرهاب التكفيري بكلّ فروعه السنّيّة والشيعية واليسارية واليمينية وغيرها.
ليس خافياً على أميركا والدول الأوروبية أنّ إيران تحتضن على أراضيها قيادات تنظيم القاعدة منذ احتلال أفغانستان أواخر عام 2001، وتستخدمهم كبيادق لتحقيق أطماعها ومصالحها. وقد بات معروفاً أنّ الرجل الثاني في التنظيم، محمد صلاح الدين زيدان الملقّب بـ”سيف العدل”، يقيم في إيران. على الرغم من ذلك لا تنفكّ أميركا وأوروبا عن تدليع طهران وغضّ البصر عن كلّ ما تقوم به، لا بل سبق أنْ كانت قوّات التحالف الغربي رفيقة سلاح وميدان مع قاسم سليماني وفيلق القدس وفروعه الإرهابية المنتشرة في غير بلد لمكافحة الإرهاب التكفيري!!
ثمّة رابط يجمع بين محاولتَيْ اغتيال نجيب محفوظ وسلمان رشدي، وهو حدوث كلّ منهما في وقت هيمنة الفكر التكفيري السنّيّ بالنسبة للأوّل، والخمينيّ بالنسبة للثاني
فتوى التكفير لا تسقط
محاولة اغتيال سلمان رشدي شبّهها كثيرون باغتيال الكاتب المصري المثير للجدل أيضاً فرج فودة، الذي تمّ تكفيره من قبل عدد من كبار المشايخ، وهو ما مهّد الطريق لاغتياله. علماً أنّ مراجعة كتب فودة تدلّنا إلى الكثير من الأفكار والأساليب التي تستخدمها الجماعات التكفيرية لتضليل الرأي العام وغسل الأدمغة، وخاصة الأمّيّين وذوي التعليم المحدود، والتي تتشابه كثيراً مع ما تقوم به جماعات إيران وعلى رأسها حزب الله في زماننا. نذكر منها المؤسّسات الماليّة والصناديق الخاصّة التي كانت الجماعات الإسلامية التكفيرية تُنشئها وتشجّع الناس على إيداع أموالهم فيها بحجّة الإنفاق على المجهود الدعوي وأعمال البرّ والإحسان، بما يشبه جمعيّة القرض الحسن.
بيد أنّ محاولة اغتيال رشدي تشبه بشكل أدقّ محاولة اغتيال الأديب المصري الشهير نجيب محفوظ عام 1995، حينما تعرّض لطعنة في رقبته من قِبل شخص ظنّه قادماً للسلام عليه، فمكث محفوظ في المستشفى بين الحياة والموت لعدّة أسابيع. وكان من نتيجة الطعنة أنّه لم يعد باستطاعته الكتابة، تماماً مثلما يُقال حاليّاً عن سلمان رشدي، وصار يعتمد على أصدقائه في الكتابة.
حسب التحقيقات وما كتبه ورواه المقرّبون من محفوظ، فإنّ الجاني نفّذ جريمته بناء على تكليف من الجماعة الإسلامية له بقتل الحائز على جائزة نوبل للآداب، وذلك على خلفيّة روايته الأكثر شهرة “أولاد حارتنا”، التي كتبها عام 1959 ومُنع من إصدارها في مصر.
ما حدث مع رشدي يعني أنّ فتوى التكفير لا تسقط بالتقادم. وقد ذكر رشدي بنفسه عدداً من محاولات الاغتيال التي تعرّض لها على الرغم من الحماية الأمنيّة، وكيف كان يحلم بقضاء يوم عاديّ مملّ، وذلك في كتاب مذكّراته الصادر عام 2012. ويُستنتج من ذلك أنّه غير صحيح بتاتاً أنّ نظام الملالي تخلّى عن الفتوى الخمينيّة عقب وفاة صاحبها.
القتل باسم الله
ثمّة رابط آخر يجمع بين محاولتَيْ اغتيال نجيب محفوظ وسلمان رشدي، وهو حدوث كلّ منهما في وقت هيمنة الفكر التكفيري السنّيّ بالنسبة للأوّل، والخمينيّ بالنسبة للثاني. فقد كانت الجماعات السنّيّة المتطرّفة تتمتّع بسطوة كبيرة في المجتمعات العربية والإسلامية، ولا سيّما في مصر طوال الثمانينيّات ومطلع التسعينيّات.
كان ذلك يجري بغضّ نظر بل وبدعم أميركي أوروبي، لأنّ تلك الجماعات كانت هي التي حاربت الشيوعيّين باعتبارهم “ملاحدة”، في أفغانستان، ودقّت المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية السوفياتية. ناهيكم عن استقبال العديد من قيادات الفكر التكفيري في الدول الأوروبية ومنحهم اللجوء السياسي، وخاصة بريطانيا. لكنْ عقب انتهاء مدّة صلاحيّتها، تحوّلت تلك الجماعات إلى “بعبع” عالمي وكابوس يقضّ مضاجع مَن حضنها ورعاها، ولا سيّما بعد أحداث 11 أيلول 2001.
ما الفارق بالنسبة إلى أميركا والغرب بين تفجيرات الأرجنتين وبلغاريا وغيرهما المتّهم فيها حزب الله وإيران، وبين التفجيرات التي نفذتها “القاعدة” في كينيا وتنزانيا؟ وما الفارق بين الخلايا التابعة لحزب الله التي ألقت السلطات الألمانية القبض عليها وضبطت لديها نيترات الأمونيوم بالذات، وخليّة العبدلي في الكويت، وبين الخلايا النائمة وغير النائمة للتنظيمات التكفيرية السنّيّة هنا وهناك؟
هذا يقتل باسم الله، وذاك أيضاً، لكنّ الفارق هو أنّ أميركا والغرب يستخدمان الإرهاب التكفيري الخمينيّ لمحاربة الإرهاب الآخر. وضمن هذا السياق يندرج استلطاف الفكر الخمينيّ بل وتسويقه عبر الكتب والدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الغربية التي تتحدّث عن مظلوميّة الشيعة في مواجهة السُنّة، وأشهرها كتاب غراهام فولر “الشيعة العرب.. المسلمون المنسيّون”، وهو الذي كان نائب رئيس المجلس الوطني للمخابرات في أميركا. ووصل الحال إلى أنْ يتغزّل الرئيس الأميركي جو بايدن منذ أيّام قليلة بـ”الإمام المخفيّ” قاصداً “الإمام المهديّ”، وذلك غداة إطلاق “سلام فرمانده” الذي يبدو أنّه شاهده وأعجبه!
الحجّة تواجه بالحجّة وليس بفتاوى القتل، لكنّ الإرهاب الخمينيّ بلغ مستوىً من الصلف والجبروت يجعل جمهوره يتفاخر بالدم المسفوك
جذور الإرهاب التكفيريّ واحدة
الفكر الإرهابيّ الخمينيّ والتكفيري السنّيّ جذورهما واحدة، إذ تأثّر الفريقان بالأفكار التكفيرية للإخوان المسلمين وللمفكّر المتطرّف سيّد قطب. وهناك معلومات وصور متاحة عبر الكثير من مواقع الإنترنت تشير إلى تقارب الإخوان المسلمين والتيّار الديني المتشدّد في إيران منذ أربعينيّات القرن الماضي، وإلى لقاءات بين مؤسّس الإخوان حسن البنّا والعالِمَيْن الشيعيّين الشهيرَيْن آية الله الكاشاني وزعيم منظّمة “فدائيو إسلام” مجتبى نوّاب صفوي، الذي يوصف بأنّه مهندس الثورة الإسلامية في إيران، مع سيّد قطب وأعضاء الإخوان في مصر أوائل الخمسينيّات.
وقد بلغت العلاقة بين صفوي والإخوان مديات عميقة وصلت إلى حدّ أنّ صفوي دعا الشيعة إلى الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين. وجماعة صفوي نفّذت اغتيالات ضدّ كلّ مَن اعتبرتهم علمانيّين يعارضون تطبيق الشريعة، بينهم مفكّرون وقضاة ووزراء ورئيس للوزراء. وكان للإخوان ذراع عسكري قويّ هو “التنظيم الخاص” الذي قام باغتيال رئيس الحكومة المصري محمود فهمي النقراشي. وبعد خمسة عقود ونيّف أقدم حزب الله الابن البارّ لهذا الفكر الإرهابي على اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وسيّد قطب هو أبرز وأشهر منظّري الفكر التكفيري وفكرة “الحاكميّة” بالذات، التي تعود جذورها إلى عصر الإسلام الأوّل، وإلى طائفة “القرّاء” بالتحديد الذين أسهموا في حصار واغتيال الخليفة عثمان بن عفّان. واشتهر أعضاؤها فيما بعد بلقب “الخوارج” لأنّهم خرجوا عن طاعة الخليفة علي بن أبي طالب، وكانوا يقاطعون خطبه قائلين: “إنْ الحكم إلّا لله يا علي”، فيردّ الإمام بجملته الشهيرة: “كلام حقّ أُريد به باطل”. وبعد ذلك اغتالوه لأنّه كان بنظرهم كافراً ومرتدّاً!!
وقطب صاحب نظريّة المجتمع الإسلامي (الإسلاميزم) كأيديولوجيا متطرّفة، حيث قسّم المجتمع في كتابه “معالم في الطريق” إلى فسطاطيْن: فسطاط إيمان لا كفر فيه، ويقابله فسطاط كفر وجاهليّة لا إيمان فيه وسمّاه “مجتمع الجاهليّة”، الذي يشتمل أيضاً على المسلمين الذين يخضعون للقوانين الوضعيّة، حتّى لو كانوا يواظبون على الصلاة وسائر العبادات.
“المرشد” فكرة إخوانية
فكرة منصب “المرشد” بحدّ ذاتها إخوانيّة المنشأ وسابقة لقيام الثورة الإسلامية في إيران. وممّا يدلّ على مدى تأثّر الثورة الخمينيّة بالأفكار التكفيرية هو أنّ المرشد الحالي لجمهورية الملالي علي خامنئي ترجم بنفسه كتاب سيّد قطب “معالم في الطريق” عام 1966، ثمّ أتبعه بترجمة كتاب “في ظلال القرآن”. وقد ذاع صيت الكتابين كثيراً في إيران بين القيادات الخمينيّة. وفكرة الحاكميّة التي نظّر لها قطب، واعتمدها نظام الخمينيّ، هي نفسها التي استند إليها قتلة الرئيس المصري أنور السادات. وقد احتفى نظام الخميني بخالد الإسلامبولي قاتل السادات، وأطلق اسمه على أحد شوارع طهران الرئيسية، قبل أنْ تقوم بلدية طهران بتغييره مطلع الألفية الثانية تمهيداً لإعادة العلاقات المقطوعة مع مصر. اللافت وقتها هو خروج تظاهرات في إيران لأنصار حزب الله (!) اعتراضاً على تغيير اسم الشارع، وقيامهم بوضع نصب تذكاري للإسلامبولي في المقبرة الرئيسية بطهران.
إقرأ أيضاً: “تيريز” تحكم بلدية طرابلس
أضف الى ذلك أنّ جذور الإرهاب التكفيري في مدينة طرابلس، التي لا يكفّ حزب الله وإعلامه عن استخدامها في دعايته، هي أيضاً خمينيّة المنشأ. فقد ظهر في طرابلس أوائل الثمانينيّات “تنظيم التوحيد الإسلامي”، وكان قادته متأثّرين بأفكار الثورة الإيرانية وبأموالها التي أغدقتها عليهم كي يبسطوا حكمهم على المدينة ويعيثوا فيها قتلاً وتهجيراً لأبناء الملل الأخرى، وخاصّة المسيحيّين. ومذّاك ومدينة طرابلس لم تبرأ من “فوبيا” الإرهاب التكفيري.
في النهاية، الحجّة تواجه بالحجّة وليس بفتاوى القتل، لكنّ الإرهاب الخمينيّ بلغ مستوىً من الصلف والجبروت يجعل جمهوره يتفاخر بالدم المسفوك.