عونيون ومستقبليون يلاحقون جان العليّة: فتّش عن السمسرات

مدة القراءة 9 د

هزّ مجلس شورى الدولة الوسط الدستوري قبل أيام، بقرار هجين، يكاد يُجمع أهل الاختصاص والمنطق على شذوذ توقيته، ولا يتردّدون بوصفه بقرار “غبّ الطلب” في إطار استكمال الحرب السياسية على مدير عام المناقصات جان العليّة… على مبدأ “خافوه فكفّروه دستورياً”، واتهموه بارتكاب مخالفات جسيمة في مناقصة انتهت مدّة تلزيمها، وفي مرحلة تسبق تطبيق قانون الشراء العام بأيام، الذي يصبح بموجبه العليّة رئيس لجنة الشراء العام، وتصبح دائرة المناقصات دائرة مستقلّة وأكثر نفوذاً، وهو الوضع الذي لا يبدو مريحاً لسماسرة البواخر الذين حاولوا ويحاولون تطيير هذا القانون خوفاً على حصصهم المقبلة في بلدٍ منهوب.

 

محاكمة “القانون”؟

يعلّق العليّة على القرار، واستدعائه أمام النيابة العامة التمييزية بتهمة القدح والذم بمجلس الشورى، فيقول: “الحرب اليوم ليست على جان العلية بل على من يطبق القانون… وصودف أنّ اسمه جان العلية، ولو جاء أي شخص يطبق القانون ستُشن عليه نفس الحرب، وهي حربٌ من نهج لا يؤمن بالدولة إلا حصصاً، وبلغت الوقاحة بهم إلى درجة اتهام من يدافع عن القانون ومن يطرح شعار دولة القانون والمؤسسات منذ سنوات، بأنّه يمارس القدح والذمّ بمجلس الشورى”.

يعيد العلية التأكيد في حديثه لـ”أساس” إلى أنّ هذا القرار القضائي متّخذ بطريقة مريبة ترتّب على الدولة أعباءً مالية كبيرة وتضغط على إدارة المناقصات لاستبدال ملتزم بملتزم آخر من دون وجه حق.

يشدد العلية على أنه كله ثقة بالقضاء وله الشرف أن يمثل امامه، وما لم يستطع قوله في المؤتمر الصحافي سيحمله معه إلى التحقيق

يرفض مدير عام المناقصات تسمية هؤلاء بأسمائهم، ويكتفي بالإشارة إليهم بأعمالهم: “لا أريد أن أضع هذه الحملة في إطار طرف أو حزب، فهي حرب أعلنتها الجهة التي تقف بمواجهة إدارة المناقصات في الخفاء منذ العام 2012، وهي نفسها التي مرّرت صفقة البواخر في مجلس الوزراء، والتي وقفت في مجلس النواب ضدّ قانون الشراء العام بشراسة، وطعنت أمام المجلس الدستوري بخمس أو ست قواعد من القانون نفسه، وهي القواعد الإصلاحية فيه، واليوم تذهب إلى القضاء الجزائي لتطييره، لأنّ الحرب على مدير عام المناقصات هي في الحقيقة لتطيير قانون الشراء العام أو تأخير تطبيقه”.

 

“عدالة أبو كلبشة”

يمثُل العليّة اليوم أمام المحامي العام لدى محكمة التمييز القاضي غسّان خوري، في الإخبار المقدّم بحقه من مجلس شورى الدولة على خلفية كلام أدلى به خلال مؤتمر صحافي عقده بعد صدور قرار مجلس الشورى الأخير، حيث اعتبر المجلس أنّ كلام العلية فيه إساءة بحقه ما دفعه إلى توجيه كتاب إلى وزير العدل هنري خوري الذي أحاله بدوره إلى النيابة العامة التمييزية.

يشدد العلية على أنه كله ثقة بالقضاء وله الشرف أن يمثل امامه، وما لم يستطع قوله في المؤتمر الصحافي سيحمله معه إلى التحقيق: “فأنا لم أتعرّض للقضاء ولم أنتقد مجلس الشورى بل انتقدت من يلحِق الضرر بالمال العام، وإن كان حضرة رئيس مجلس الشورى يعتبر نفسه يلحق الضرر بالمال العام فلا يختبئنَّ خلف مجلس الشورى، بل ليتحلّى بالجرأة ويقدم الإخبار شخصياً بحقي ويقول: أنا المقصود بكلام عليّة”.

يشبه العليّة هذا الإخبار وإحالته تحديداً إلى النيابة العامة الجزائية بدلاً من المطبوعات أو التفتيش، بمحاولة الترهيب الشبيهة بمسلسل “بدري أبو كلبشة” ويضيف: “هذه عدالتهم” ويضع سؤالاً برسم الرأي العام: “من يسيء لمجلس الشورى؟ من اتّخذ هذا القرار أو من علّق عليه بحكم موقعه ووظيفته ومهنته واختصاصه؟!”.

 

تفاصيل المناقصة

بالعودة إلى تفاصيل المناقصة (محور القرار) يسرد “أساس” عليكم القصة من بدايتها، ونسمح للرأي العام بفهم القضية بجميع تفاصيلها ومختلف جوانبها.

في العام 2017 وخلافاً لـ90% من المناقصات التي كانت تحصل بالتراضي وتقسيم الغنائم، من الكهرباء إلى البواخر والأشغال العامة وغيرها، من دون المرور على إدارة المناقصات… جاءت مناقصة تلزيم السوق الحرة في مطار بيروت الدولي، لتكون بمثابة انتقام لكل ما سبق من تلزيمات “السمسرة” لتحفظ حق الدولة اللبنانية ببدل استثمار يصل إلى 100 مليون دولار سنوياً، بعد ما كان يتم تشغيلها بمبالغ زهيدة لا تتجاوز 15 مليون دولار. وكانت هذه المناقصة من بين المناقصات القليلة التي مرّت على إدارة المناقصات في التفتيش المركزي، ودرسها العليّة، “المعروف بتاريخه المشرف في الإدارة” كما يصفه القاضي شكري صادر الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة في حديثه لـ”أساس”.

وبالتالي تم تنظيم المناقصة يومها وفقاً لقانون أحكام قانون المناقصات، وبشفافية ودقة، وتقدمت إليها 5 شركات من بينها شركة “فينيسيا”، ثلاثة من هذه الشركات تمّ اعتبارها غير مستوفية الشروط، لتبقى المنافسة بين شركتين فقط، أحدهما شركة محمد زيدان التي فازت بعقد التلزيم، لتلجأ الشركة الثانية إلى مجلس شورى الدولة للطعن بالمناقصة.

يعيد العلية التأكيد في حديثه لـ”أساس” إلى أنّ هذا القرار القضائي متّخذ بطريقة مريبة ترتّب على الدولة أعباءً مالية كبيرة

“كان الفرق شاسعاً بين العرضين المقدمين من الشركتين” يؤكد صادر، ويوضح أن التسمية الدقيقة هنا هي أنّها “مزايدة”. فالمناقصة هي أن تشتري الدولة، على سبيل المثال، طنّاً من القمح بأفضل المواصفات وبأقلّ سعر ممكن. لكن هنا الدولة لديها أملاك وتريد أن تؤجرها، وبالتالي من يدفع أكثر لتشغيل السوق الحرة ويكون مطابقاً لدفتر الشروط هو الذي يربح.  وكان الفارق أكثر من ضعف بين الشركتين. إذ “قدمت شركة فينيسيا 100 مليون دولار بدل استثمار سنوي، بينما الشركة الثانية قدمت 43 مليون دولار فقط، وهنا كان لا بدّ أن يكون القرار بعدم إبطال المناقصة، وقررنا كقضاء مستعجل، التأكيد على أنّ القرار الذي اتخذته دائرة المناقصات قرار سليم”.

لكنّ واحدة من الشركات الثلاثة الخاسرة في المرحلة الأولى من المزايدة لعدم استيفائها الشروط، بسبب أنّها قدّمت شهادة iso رقمها 9001/2015 عائدة لشركة أخرى، عادت وقدّمت دعوى لدى الغرفة التي تنظر بقضايا المناقصات، في مجلس شورى الدولة، أي ليس لدى القضاء المستعجل.

الشركة التي تقدمت بالمراجعة هي “وورلد ديوتي فري غروب”، وطلبت وقف تنفيذ المناقصة ومن ثم إبطالها، ومن بعدها المحكمة تقرر إما وقف تنفيذ المناقصة أو اعتبارها ظاهراً صحيحة. هنا قالت الغرفة يومها: “بحسب ما وردني حتّى ساعتها لا أسباب جدية لوقف التنفيذ”. وردّت طلب وقف التنفيذ في 23 أيار 2017″. لتبقى المناقصة سارية بقرار موقّع من رئيس مجلس شورى الدولة آنذاك القاضي شكري صادر. لكن لم تملّ الشركة من المحاولة وعادت وقدمت طعناً جديداً بالمناقصة لدى مجلس شورى الدولة.

 

قرار مريب

بعد خمس سنوات على المناقصة، أصدرت الغرفة الثانية لدى مجلس شورى الدولة قراراً بتوقيع القاضي طلال بيضون، في 26 أيار 2022، ينقض قرارات مجلس شورى الدولة السابقة، ويقول إنّ المناقصة فيها مخالفات جسيمة، مشككاً بنزاهة إدارة المناقصات، ويتهم جان العليّة بالتقاعس.

يرفض صادر التعليق على القرار القضائي، ويكتفي بالسرد القانوني السابق الذكر للأحداث، وبإبداء شهادته بعليّة ويقول: “عملت مع جان العلية عدّة مرات واختبرت عمله عن قرب وكان مثال الموظف ومثال المتجرّد ومثال المواطن الحر الذي لا يساير أحداً على حساب القانون”.

 فلماذا هذا القرار اليوم، بعد 5 سنوات وقبل شهر واحد من انتهاء المناقصة، علماً أن هذا القرار يفتح الباب لزيدان للمطالبة باستعادة أمواله من الدولة والتي تبلغ نصف مليار دولار أميركي، ويفتح الباب للشركة الطاعنة بالعطل والضرر؟

لماذا هذا التوقيت بالتحديد؟

إن كان هناك مخالفات فعلية في المناقصة فلماذا الانتظار كل هذا الوقت بدلاً من قرار وقف تنفيذها في مهلة 15 يوماً من تقديم الطعن.. لا بعد 5 سنوات؟

أسئلة مشروعة لا نجد لها إجابة إلى في حرب سماسرة البواخر على القانون ومن يحاول تطبيقه.

يؤكد المؤكد مرجع دستوري وثيق الصلة بالملف لـ”اساس”. إذ يشدّد على أنّ اللغز في التوقيت، وبغض النظر عن المناقصة وصاحبها ومن فاز ومن لم يفز، فإن أهداف القرار تأتي استكمالاً للحرب السياسية الشعواء على جان العليّة، التي بدأت قبل سنين ويعودون اليوم لتزييتها بقرار قضائي غبّ الطلب، بعد انتهاء المناقصة (كان هناك مناقصة جديدة للسوق الحرة في مطار بيروت الخميس الماضي)، وقبل أيام فقط من استحقاق قانون الشراء العام في 29 الجاري. علماً أن رئيس الغرفة الثانية لدى مجلس شورى الدولة، المؤلفة من ثلاثة قضاة يرأسهم القاضي طلال بيضون، صاحب التوقيع على القرار، هو أيضاً مقرّب من الأجواء المستقبلية الرئاسية وهو عضو مجلس شرعي سابق.

 

ترهيب معنوي

فماذا يعني هذا القانون؟ وكيف يؤثر على أصحاب المصالح الملتوية؟

مجرد تطبيق قانون الشراء العام، يصبح جان العليّة رئيس لجنة الشراء العام، وتصبح إدارة المناقصات مستقلّة منفصلة عن التفتيش المركزي، ويصبح إلزامياً إجراء مناقصات، وإلزامياً مرور هذه المناقصات لدرسها من قبل العليّة وعلى سبيل المثال يمكنه أن يمنع تكرار ما حصل في صفقة بواخر الكهرباء، التي سجّل ملاحظاتٍ كبيرة عليها ومع ذلك تم تمريرها بالتراضي في مجلس الوزراء من دون العودة الى إدارة المناقصات.

إقرأ أيضاً: بعد جان جبران وأورور فغالي… روني لحّود “يتسلبط”

إشارات استفهام كبيرة تحوم حول القرار الأخير لمجلس شورى الدولة، والتصعيد في مواجهة العليّة، فهل سيكون لذلك تبعات قانونية كبيرة أم سيكون مجرد محاولة فاشلة في السياسة لإبطال قانون الشراء العام، تلحق بالمحاولات السابقة الفاشلة التي ترأس التيار الوطني الحر رأس حربتها؟

علماً أن اجتماعاً كان يفترض أن يجري صباح اليوم بين العليّة ولجنة من الاتحاد الأوروبي بموضوع تطبيق قانون الشراء العام، والتمويل وتخصيص بوابة إلكترونية تمنع المحاصصة والسرقة، اضطر العليّة إلى الاعتذار عنه بسبب جلسة اليوم، وهو ما وصفه خلال حديثه معنا بـ”الترهيب المعنوي، لعرقلة تطبيق القانون وإلحاق الضرر بسمعة البلد”.

مواضيع ذات صلة

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…

“الفرصة الأخيرة” وسط الألغام

قبل ساعات من وصول الموفد الأميركي آموس هوكستين تقصّد العدوّ الإسرائيلي كما الحزب رفع مستوى الضغط الميداني إلى حدّه الأقصى: إسرائيل تكرّر قصف عمق العاصمة…