نشرت مجلة “دير شبيغل” الألمانية تحقيقاً عن “تورّط نظام بشار الأسد بعمق في تجارة المخدّرات الاصطناعية”. وكشف التحقيق أنّ “المحقّقين الألمان وجدوا دليلاً على أنّ طاغية سوريا يموّل على ما يبدو سلطته بأموال المخدّرات، وذلك بالتعاون مع الصحيفة اليومية الإيطالية “لا ريبوبليكا”.
ننشر الجزء الأوّل منه، ويشرح كيف ربط المحقّقون الألمان آل الأسد بشحنات الكبتاغون.
دير شبيغل
بدأ الأمر برمّته بالصدفة، كما هو الحال في كثير من الأحيان. داخل حاوية شحن تحمل الرقم ARKU 837499-1، محمّلة بوحدات تبريد ماركة Thermo King، وجد مسؤولو الجمارك الرومانيون في نيسان 2020 سلعة أكثر إثارة للاهتمام ممّا قد تشير إليه بوليصة الشحن. فقد كانت مخبّأة داخل الأجهزة 2.1 مليون حبّة كبتاغون تحتوي على الأمفيتامين بنسبة 11.5 في المائة، وقيمتها 43.5 مليون يورو.
لكن من أين أتت الأدوية؟
أوراق هذه الشحنة، التي كانت في طريقها من سوريا إلى السعودية عبر رومانيا، كانت بمنزلة البداية. أدّت المعلومات التي تحتويها إلى التنصّت على الهواتف ومراقبة المحادثات المشبوهة. رويداً رويداً ظهرت مجموعة يقودها شخص يُدعى “أبا فؤاد”. كان المحقّقون مهتمّين جدّاً بما قاله أبو فؤاد وشركاؤه. فعندما تحدّثوا عن “الحليب”، كانوا يقصدون على الأرجح الكوكايين. تشير “السيارات” أو “الأشياء” إلى مخدّرات أخرى. لم يكن من السهل دائماً متابعة محادثات الرجال، ونادراً ما تحدّثوا عبر الهاتف على أيّ حال، لكنّ ذلك لم يكن مستحيلاً تماماً.
ببطء أصبح من الواضح أنّ أبا فؤاد، كبير اللوجستيّين لتجّار المخدّرات، هو إياد س.، البالغ من العمر 55 عاماً، من مدينة اللاذقية السورية، حيث كان يدير شركة استيراد وتصدير في الميناء. قبل الفرقة الرابعة، أغلقت وحدة عسكرية نخبوية تابعة لنظام الديكتاتور السوري بشار الأسد أعمال الشركة في 2017 وتولّت زمام الأمور بدلاً منها. منذ ذلك الحين، يعيش في الخارج: أحياناً في تركيا، وأحياناً في لبنان، وبين الحين والآخر في مدينة شباير بجنوب غرب ألمانيا، التي فرّت إليها عائلته في عام 2015. يبدو أنّه تولّى السيطرة على الشحنات الحسّاسة في أقرب وقت. وكانت الحاويات تبحر من اللاذقية. وكان مدعوماً من “الأقوياء” هناك.
تبلور شكّ في أنّ النظام في دمشق يحصل على جزء كبير من عائداته من خلال المبيعات الدولية لمركّب الأمفيتامين، واسمه “الكبتاغون”، الذي يحظى بشعبية كبيرة، خاصة في الدول العربية
آل الأسد في قلب العصابة
إذا تمكّن المدّعون العامّون من إثبات ما يزعم المحقّقون في المحكمة من ولاية شمال الراين وستفاليا الألمانية أنّهم اكتشفوه بعد جهد سنوات عديدة، فإنّ كتب تاريخ الجريمة في ألمانيا ستحصل على فصل جديد مهمّ. ما بدا في البداية أنّه قضية أخرى تتعلّق بعصابة مخدّرات وحسب، تطوَّر منذ ذلك الحين إلى شبكة سياسية من المؤامرات مع عشيرة الأسد في المركز.
تبلور شكّ في أنّ النظام في دمشق يحصل على جزء كبير من عائداته من خلال المبيعات الدولية لمركّب الأمفيتامين، واسمه “الكبتاغون”، الذي يحظى بشعبية كبيرة، خاصة في الدول العربية.
بالإضافة إلى إياد س.، تمّ توجيه الاتّهام إلى سوريين آخرين وجزائري في ألمانيا، ومن المقرّر أن تبدأ محاكمتهم قريباً في مدينة إيسن الألمانية. ومن المتوقّع أن تسلّط إجراءات المحكمة الضوء على تجارة المخدّرات المزدهرة تحت سيطرة الديكتاتوريّة السورية.
في السنوات الأخيرة، تمكّن مسؤولو الأمن مراراً وتكراراً من اعتراض شحنات ضخمة من الكبتاغون:
– في يوم واحد، 1 تمّوز 2020، تمّت مصادرة 84 مليون حبّة كاملة في ميناء ساليرنو بإيطاليا، بقيمة تبلغ حوالي مليار يورو.
– في تموز الماضي، صادر المسؤولون اليونانيون 5.25 أطنان من الكبتاغون.
– في نيسان 2020، عثر مسؤولو الجمارك المصريون في بورسعيد على الكبتاغون والحشيش معبّأين في 19 ألف حاوية لشركة “تتراباك”، تملكها شركة “ميلكمان” السورية، التي كان يملكها في ذلك الوقت ابن عمّ بشار الأسد الأغنى رامي مخلوف، الذي سيشعر بالاستياء لاحقاً. وقد نفى مخلوف حينئذٍ تورّط شركته.
– في تشرين الثاني 2021، عثر المصريون مرّة أخرى على الكبتاغون، وهذه المرّة كانت الكميّة 11 مليون حبّة.
– في أواخر آذار، جاء دور ماليزيا، حيث ظهرت 94.8 مليون حبّة كبتاغون في بورت كلانج.
– كانت هناك اكتشافات إضافية في لبنان وهونغ كونغ ونيجيريا، إلى جانب مصادرة شحنات في العديد من الموانئ في دبي والمملكة العربية السعودية.
تحوّلت سوريا إلى دولة مخدّرات متوسّطية: “بالنسبة إلى الدولة المضطهَدة اقتصادياً التي لا تزال مدمّرة إلى حدّ كبير، ويقودها بشار الأسد، أصبحت أعمال الكبتاغون أهمّ صادراتها”، يقول جويل رايبورن، المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى سوريا. يضيف: “أعتقد أنّ نظام الأسد لن ينجو من خسارة عائدات الكبتاغون. وليس الأمر وكأنّ النظام السوري يقف جانباً فقط للسماح بإنتاج وتصدير الأدوية بشكل مستمرّ”، على حدّ قوله، بل “هم الكارتل”.
استطاع المنتجون في سوريا تحمّل الانتكاسات التي عانوا منها بسهولة، كما لو أنّهم ينتجون كميّات هائلة من المخدّرات. ولم تترك المصادرات الهائلة أيّ تأثير على حركتهم. وحتّى الآن، كان من المستحيل ربط أولئك الذين يقفون وراء الصفقات الضخمة بعمليات تسليم ملموسة. لكنّ قضية إيسن يمكن أن تغيّر ذلك.
يعتقد المدّعون العامّون المحقّقون في إيسن والمحقّقون الجنائيون في شمال الراين – وستفاليا أنّ إياد س. هو قلب الكارتل. لقد تمكّنوا من ربط أكثر من طن من الحشيش وأكثر من طن من الكبتاغون تبلغ قيمتها حوالي 130 مليون يورو بإياد س. ومن يقفون خلفه.
تمكّن مسؤولو التحقيق من رسم هيكل الصفقات، التي تشمل داعمين في سوريا يسيطرون على تجارة الكبتاغون بمساعدة خبراء لوجستيات فرّوا سابقاً إلى أوروبا. يقول أحد المحقّقين: “إنّهم يرسلون شحنة تلو أخرى”
شحنة تلو أخرى
تمكّن مسؤولو التحقيق أيضاً من رسم هيكل الصفقات، التي تشمل داعمين في سوريا يسيطرون على تجارة الكبتاغون بمساعدة خبراء لوجستيات فرّوا سابقاً إلى أوروبا. يقول أحد المحقّقين: “إنّهم يرسلون شحنة تلو أخرى”.
من بين شركاء إياد س. المشتبه بهم زميله السوري محمد ب.، وهو رجل ضخم، وحش يبلغ طوله حوالي مترين ويعيش في وادي الرور بألمانيا. يُعتقد أنّه متورّط في تهريب المخدّرات في سوريا حتى قبل أن يفرّ إلى ألمانيا. ووفقاً للائحة الاتّهام، فقد كان ذا مكانة جيّدة لدى أفراد من عائلة الأسد لدرجة أنّه تمكّن من العيش في أحد أفضل أحياء دمشق. على الأقلّ حتى خدع شركاءه التجاريين على ما يبدو واضطرّ إلى الفرار. وقد رفض محامو المتّهمين مناقشة القضية عند الاتّصال بهم للتعليق.
يُعتقد أنّ الكارتل المحيط بإياد س. قد شكّل امتداداً للنظام السوري، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى الأدلّة التي توصّل إليها المحقّقون من أنّ اثنين من الرجال الأربعة كانا يشغلان في الماضي مناصب مؤثّرة في ميناء اللاذقية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ جميع شحنات المجموعة قد انطلقت من ذلك الميناء، وعلى الرغم من اعتراض البضائع ومصادرتها في عدّة مناسبات، فقد تمّ باستمرار توصيل شحنات إضافية، وهو ما يشير إلى قدرة إنتاجية كبيرة. يمكن أيضاً سماع الشريك المشتبه به محمد ب. وهو يتفاخر في محادثة هاتفية تمّ اعتراضها بعلاقاته الممتازة المستمرّة مع أفراد من عشيرة الأسد، حتى إنّه قال إنّهم “أصدقاء له”.
المحقّقون، باختصار، مقتنعون بأنّ جميع صفقات المخدّرات في سوريا تخضع لحماية نظام الأسد. ووجدوا دليلاً على أنّ الفرقة الرابعة، بقيادة شقيق الرئيس ماهر الأسد، تجني أيضاً أموالاً من شحنات المخدّرات. ويعتقدون أنّ الوحدة تحصل على 300 ألف دولار عن كلّ حاوية يتمّ شحنها من اللاذقية، مع 60 ألف دولار أخرى يُفترض أنّها تُدفع للجنود حتى لا يأخذوا واجبات المراقبة على محمل الجدّ.
لم يردّ ماهر الأسد على عدّة محاولات للاتّصال به.
والثات أنّه يتمّ إخفاء الحبوب في منتجات قانونية للشحن، مثل الإطارات المطّاطية أو العجلات المسنّنة الفولاذية أو لفافات الورق الصناعية، وفي أوقات أخرى في الأرائك أو حتى الفاكهة البلاستيكية. على الرغم من ذلك، تأتي الشحنات دائماً تقريباً من ميناء اللاذقية الشمالي، الذي يخضع لسيطرة عائلة الأسد منذ الثمانينيّات.
إقرأ أيضاً: إيران تُجنِّد أطفالاً سوريّين للقتال في اليمن
إنّه عمل ضخم، حتى لو نظر المرء فقط إلى قيمة الكبتاغون التي تمّ اعتراضها. يشير تقدير متحفّظ من معهد “نيو لاينز” للأبحاث، ومقرّه واشنطن، إلى أنّ القيمة الإجمالية للشحنات بلغت 5.7 مليارات دولار على الأقلّ في عام 2021، وهي أعلى بعدّة مرّات من الصادرات السورية القانونية، التي أضافت ما يصل إلى 860 مليون دولار في عام 2020.
لا أحد يعرف مقدار المنتج الذي يصل بالفعل إلى وجهته. لكن تقدّر مراكز الفكر ووكالات الاستخبارات الغربية أنّ إجمالي الأرباح يبلغ المليارات.
في الحلقة الثانية غداً:
الدولة تحمي… وحزب الله بريء