عندما أحضر إلى طرابلس للمشاركة في لقاء ثقافي أو فكري أشعر أنّني بحاجة إلى التعبير عن الامتنان لهذه المدينة الرائعة ولأدبائها ومفكّريها وإعلاميّيها وعلمائها الذين كان لهم الفضل عليّ وعلى ثقافتي وإيماني ودوري في الحياة. فمن أهمّ وأوائل الكتب التي قرأتها وتأثّرت بها كتاب “قصّة الإيمان” للشيخ نديم الجسر.
للدكتور فتحي يكن وكتبه أيضاً تأثير كبير على ثقافتي ووعيي الإسلامي والحركي، ولا يمكن تعداد كلّ أسماء علماء ومفكّري وكتّاب هذه المدينة المبدعة، لكن لا بدّ من توجيه التحيّة للمفكّر الدكتور عبد الغني عماد والكاتب والروائي جبّور دويهي والإعلامي عبد القادر الأسمر، وقد فقدناهم في الأشهر الماضية، وللصديق الزميل طلال منجد. كان لهؤلاء اهتمام خاصّ بهذه المدينة ومجتمعها وتاريخها. وأوجِّه التحيّة للمطران جورج خضر لأنّه قدّم صورة رائعة عن العيش المشترك في هذه المدينة.
أمّا الدكتور خالد زيادة الذي التقينا به في هذه الأمسية لمناسبة صدور كتابه الجديد “حوارات في الثقافة والتاريخ”، فقد كان لكتبه وشخصيّته الموسوعية والاجتماعية المميّزة تأثير كبير على وعيي وعلى حبّي لهذه المدينة الرائعة والمتنوّعة، وخصوصاً كتابه الجميل “يوم الجمعة، يوم الأحد”، وهو جزء من ثلاثيّة جميلة عن هذه المدينة، وروايته المميّزة: “حكاية فيصل”.
ومَن يقرأ هذه الحوارات الشائقة والسلسة والرائعة يكتشف أنّه أمام عالم موسوعي ونادر شبيه بعلماء العصور العربية والإسلامية في زمن النهضة العربية والإسلامية
لكنّ كتاب اليوم “حوارات في الثقافة والتاريخ” له أهمّية مميّزة لأنّه يجعلنا نطلّ ولو بشكل انتقائي وسريع على تجربته الكتابية والتأريخية والروائية والأدبية والاجتماعية والدبلوماسية، وذلك من خلال استعراض سلسلة المقابلات التي أُجريت معه على مدار حوالي 38 سنة تقريباً (من عام 1984 حتى اليوم)، والتي من خلالها نتعرّف على أفكار وآراء الدكتور خالد زيادة ومسيرته الطويلة، وتقدّم لنا نوعاً من السيرة الأدبية والفكرية، وتبيّن تطوّر أفكاره من مختلف القضايا المهمّة، على أمل أن نحظى قريباً بسيرته الذاتية الكاملة وتجربته السياسية والدبلوماسية والعملية، أطال الله بعمره.
تتمحور هذه الحوارات المهمّة حول عدّة موضوعات وأفكار وتجارب أساسية، ومنها:
أوّلاً، تجربة أرشفة وثائق المحاكم الشرعية في طرابلس، وكيفيّة الاستفادة منها. وهذه تجربة مهمّة جدّاً في الأرشفة وعلم الاجتماع ودراسة التاريخ الثقافي والاجتماعي والديني لمدينة طرابلس.
ثانياً، العلاقة بين المثقّف والسلطان، وهذه من الموضوعات المهمّة التي تطرّق إليها في كتبه ودراسته وآرائه. ودور المثقّف في الواقع السياسي، وتطوّر هذا الدور خلال العقود الأخيرة. وقد تحدّث الدكتور زيادة عن نهاية دور المثقّف التقليدي في عصرنا الحالي، والحاجة إلى إعادة النظر في هذا الدور، وهذه قضيّة تتطلّب حواراً خاصّاً.
ثالثاً، الإطلالة على تجربة مدينة طرابلس في العيش المشترك، وبما هي مدينة متوسّطية نموذجية، من خلال كتبه الثلاثة عن المدينة: “يوم الجمعة يوم الأحد”، “حارات الأهل وجادات اللهو”، “بوّابات المدينة والسور الوهميّ”. وقد جُمعت لاحقاً في كتاب واحد تحت عنوان: “مدينة على المتوسّط”. وهي تقدّم لنا بعضاً من مميّزات هذه المدينة العظيمة والجميلة التي نجح الدكتور زيادة في نقلها إلى كلّ أنحاء العالم من خلال ترجمة كتبه. وهذا نموذج مهمّ للتعريف بالصورة الحقيقية لهذه المدينة الجميلة ردّاً على الصورة السلبية التي يحاول البعض لصقها بها.
رابعاً، الإطلالة على تجربته الروائية، وخصوصاً من خلال رواية “حكاية فيصل” التاريخية. وهي ليست روايةً أو كتاب تاريخ تقليدياً عن تجربة الملك فيصل خلال حكمه لسوريا والعراق وحسب، بل هي رؤية متكاملة تتناول علاقة العرب بالغرب والسلطنة العثمانية، وتأثير ذلك على تاريخنا واستقلالنا، والآثار السلبية للاتّكال على الغرب لمواجهة السلطنة العثمانية وأخطائها. وقد استكمل ذلك في كتابه المهمّ “لم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب”، ولو من زاوية فكرية وحضارية. وهذه أطروحة مميّزة ومثيرة للجدل في مواجهة الذين يدعوننا اليوم إلى التطلّع دوماً إلى الغرب لتغيير واقعنا.
خامساً، الإطلالة على تجربته الدبلوماسية خلال عمله سفيراً للبنان في مصر، وتولّيه موقع الممثّل الدائم للبنان في جامعة الدول العربية لمدّة تسع سنوات (2007-2016). وقد عاصر خلالها الثورات العربية الشعبية وتطوّرها. وفي الكتاب قراءة تقييميّة لهذه الثورات وأسباب فشلها ومستقبل العالم العربي في ضوء هذه التجارب. ويطلّ على تجربته الدبلوماسية والثقافية المميّزة في مصر، وكيفيّة تطوير العلاقات بين البلدين، وتجربة المنتدى الدبلوماسي الثقافي الذي أنشأه في القاهرة مع مثقّفين مصريين ودبلوماسيين عرب.
سادساً، مواقفه وآراؤه حول العلمنة والتجارب الإسلامية ومستقبل العالم العربي والإسلامي وتطوّر المدن العربية ومستقبلها ودور المثقّفين اليوم.
نحن أمام مفكّر عربي نقديّ يقدّم لنا خلاصات علومه وأفكاره وتجاربه وآرائه
العالم الموسوعي
هذه بعض الموضوعات التي تطرّق إليها هذا الكتاب المهمّ. ومَن يقرأ هذه الحوارات الشائقة والسلسة والرائعة يكتشف أنّه أمام عالم موسوعي ونادر شبيه بعلماء العصور العربية والإسلامية في زمن النهضة العربية والإسلامية حين كان العالِم ضليعاً بالأدب والتاريخ والتربية والطبّ وعلم الاجتماع، وليس متعلّماً تقليديّاً وحسب ينقل ما يقرأه أو ما يسمعه.
نحن أمام مفكّر عربي نقديّ يقدّم لنا خلاصات علومه وأفكاره وتجاربه وآرائه. وهدوء الدكتور خالد زيادة عندما تتحدّث معه أو تلتقي به يخفي عنّا عمق تفكيره وتجربته، وهو يذكّرنا بالبحر العميق الذي لا ترى منه سوى سطح مياهه الساكنة في حين تختفي في داخله الكنوز الرائعة والجميلة.
من خلال هذه الحوارات الشائقة والعميقة ندخل إلى عوالم الدكتور خالد زيادة، ومنها إلى عوالم مدينة طرابلس الجميلة والمدن العربية وتاريخ السلطنة العثمانية والتجربة العربية الحديثة كي نكتشف أخيراً أنّنا اليوم أمام تحدّيات كبرى على الصعد الاجتماعية والسياسية والفكرية، وعلى صعيد الحكم وحماية الحرّيات وحقوق الإنسان. ولعلّنا من خلال هذه التجربة الرائدة نطلّ على المستقبل الذي نريده ونعمل له، يحدونا الأمل والتفاؤل والرجاء أن يكون مستقبلاً أجمل وأفضل على الرغم من الواقع الصعب الذي نعيشه اليوم في ظلّ الظروف السياسية والاقتصادية والمعيشية الصعبة.
إقرأ أيضاً: “مركز تموز” والسلاح: لـ”مقاومة” بإمرة الجيش
هذا الكتاب هو كشّاف (أي في علم التوثيق والأرشفة: index) لفكر وآراء وكتب الدكتور خالد زيادة وتجربته المتنوّعة.
شكراً للدكتور خالد زيادة الذي جمعنا اليوم حول أحد نتاجاته المهمّة ونفائسه الثقافية. وشكراً للجهات الداعية. وشكراً لكم جميعاً على حضوركم ومشاركتكم واستماعكم، على أمل أن يكون هذا اللقاء حافزاً لنا كي ندخل عمق عوالم الدكتور خالد زيادة لقراءة الماضي واستشراف المستقبل وتقييم الحاضر. ومن خلال هذه التجربة أتمنّى من الجهات الثقافية والفكرية والأدبية في هذه المدينة الجميلة، وفي منطقة الشمال وعكار عموماً، الاهتمام أكثر بالتعريف بعلماء ومفكّري وأدباء هذه المنطقة كي تكون رسالة جميلة للبنان والعالم كلّه.
*كلمة ألقيت خلال احتفال بتوقيع الكتاب في طرابلس