لا يُخفي “حزب الله” أنّه معنيّ بمواكبة الحرب الأوكرانية، وكأنّها حرب تجري في المنطقة. يظهر هذا جليّاً في وسائل إعلام الحزب، حيث تساوت في المراتب هذه الحرب مع ما يجري في فلسطين واليمن. وهما من العناوين الثابتة في متابعات هذا الإعلام، الأولى باعتبارها “القضية الأساس”، والثانية باعتبارها الباب الأساسي الذي يبتزّ به الإيرانوين العرب.
كيف لا يهتمّ الحزب بهذه الحرب، التي أصبحت كصندوق “باندورا”، فخرجت منه كلّ شرور العالم، كما تقول أسطورة الصندوق الإغريقية؟
بعد عام 2015، وبحسب مصادر إعلامية، التقى بوغدانوف مجدّداً نصرالله، الذي أعرب أمام ضيفه عن ارتياحه لما آلت إليه الحرب السورية، قائلاً: “لقد انتصرنا معاً في سوريا، وبقي الرئيس بشار الأسد في منصبه”
وأولى نُذُر “الشرور” من هذا الصندوق بدأت تظهر في موسكو، التي بدأ تورّطها في أوكرانيا يستنفد قواها، جاعلاً من بقائها في سوريا موضوعاً للدرس. ومن أكثر من حزب الله كان ولا يزال لاعباً رئيسياً هناك؟
لنذهب إلى تصريحات المسؤولين الروس حول “وجود” القوات الروسية في سوريا.
قيب أيام، أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف، في مقابلة مع قناة “آر تي” الروسية، أنّ قوات بلاده “باقية لأنّها موجودة بطلب من الحكومة الشرعية”. لكنَّه ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال إعادة توزيع أو تقليص حجم الوجود العسكري.واعتبر أنّ هذا الأمر متروك للعسكريين لتقدير تعداد القوات التي يجب أن تبقى في البلاد. لم يُظهر توتّراً حيال التمدّد العسكري التركي المستجدّ في شمال سوريا، واكتفى بالقول إنّ لدى “الجانب التركي متطلّبات أمنيّة”، في إشارة إلى النزعات الانفصالية في المنطقة.
لكن من يكسب من هذا التردّد؟
تحت عنوان “إيران بعد انسحاب الروس من سوريا”، كتب عبد الرحمن الراشد في الشرق الأوسط: “لم يخطر ببال أحد أن يكون نظام إيران الكاسب عسكرياً من أزمة أوكرانيا التي تضطرّ الروس اليوم إلى الانسحاب من سوريا”. وأضاف: “نظرية التوازن الأجنبي داخل سوريا على وشك الاختلال. ففي الأسابيع الماضية وردت تقارير عن مغادرة قوات روسية عائدة إلى بلدها، وربّما أوكرانيا، حيث تخوض روسيا حربها هي. والأرجح أن نشهد المزيد من الانسحابات الروسية حتى يصبح الإيرانيون متفرّدين هناك”.
بناءً على هذا التحليل، فإنّ احتمال أن يصبح الإيرانيون، الذين يضمّون في صفوفهم الميليشيات المنضوية في إطار “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، وفي مقدَّمهم “حزب الله”، منفردين في سوريا، كما يشير الراشد، يُعيد المشهد السوري إلى الوراء، وتحديداً إلى ما قبل 30 أيلول 2015، عندما بدأ سلاح الجوّ الروسي بتوجيه ضربات جوّية في الأراضي السورية، مؤدّياً إلى انقلاب ميزان القوى لمصلحة النظام السوري وحليفه الإيراني، بعدما كادت قوى المعارضة السورية بكلّ تلاوينها أن تفرض سيطرتها على دمشق.
قبل أن تطلب طهران النجدة الروسية، عبر زيارة طارئة لموسكو قام بها قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني، التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في حزيران عام 2013 الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الذي قال له إنّ تدخّل الحزب في الحرب السورية في ذلك الوقت جاء عندما رأى نصرالله أنّ “ثمّة خطراً جدّياً أن تسقط دمشق”.
الخروج الروسي من سوريا، قد يعيد الكثير من “التوازنات” إلى ما قبل 2015، حين كان هناك “معارضة” فاعلة عسكرياً
لقاء نصر الله – بوغدانوف
بعد عام 2015، وبحسب مصادر إعلامية، التقى بوغدانوف مجدّداً نصرالله، الذي أعرب أمام ضيفه عن ارتياحه لما آلت إليه الحرب السورية، قائلاً: “لقد انتصرنا معاً في سوريا، وبقي الرئيس بشار الأسد في منصبه”.
وتمضي هذه المصادر قائلة: “لو تسنّى لبوغدانوف أن يلتقي نصرالله اليوم، فسيكون بينهما كلام آخر. إنّ أيّ انسحاب للقوات الروسية من سوريا سيغيّر جذريّاً ميزان القوى هناك، ولن يعود ينفع عندئذ الحديث عن أيّ انتصار”.
فالخروج الروسي من سوريا، قد يعيد الكثير من “التوازنات” إلى ما قبل 2015، حين كان هناك “معارضة” فاعلة عسكرياً. ومع بدء إشارات التدخّل التركي شمال سوريا، فإنّ شهية “استئناف” الحرب، لاستئناف تغيير التوازنات، قد تأخذنا إلى سنوات جديدة من جولات الحروب، وإلى تغيير سياسي في سوريا.
ليست هي المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة بالطبع، التي تدخل القوات الروسية بلداً ما، ثمّ تنسحب منه. ومن التاريخ مثال أفغانستان التي تشاء الأقدار أن يكون والد بوغدانوف نفسه شاهداً مباشراً على ما جرى فيها. إنّه اللواء ليونيد بوغدانوف (1927-2008) الذي كان رئيس ممثليّة جهاز الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) في أفغانستان بين عامَيْ 1978 و1980. في مذكّراته التي حملت عنوان “الدفتر الأفغاني”، يروي اللواء بوغدانوف كيف أدّت الاضطرابات في أفغانستان إلى رحيل القوات السوفياتية والتخلّي عن نظام الحكم الذي كانت تدعمه هناك. ويقول: “كان من واجب أيّ مسؤول في دوائرنا العسكرية أن يثبت بقوّة وإلحاح استحالة إيجاد حلّ جذري لمشكلة المتمرّدين في أفغانستان بواسطة جيش نظامي”.
عندما يقرّر المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف أن يكتب مذكّراته، ماذا عساه سيقول عن ذكرياته في سوريا، وما يتّصل بها من محادثات عقدها مع الأمين العامّ لـ”حزب الله”؟
إقرأ أيضاً: 7 مؤشّرات “جدّية”: هل بدأت الحرب الإقليمية؟
بكلّ تأكيد سيكتب من وحي العبرة الخالدة أن لا شيء يدوم، سواء كان انتصاراً أم انكساراً. ولربّما ستكون مناسبة لإدخال تعديل على ما قاله نصرالله للدبلوماسي بوغدانوف بعد العام 2015: “لقد انتصرنا معاً في سوريا..”، ليصبح: “لقد خسرنا معاً في سوريا”.
إنّه كلام مؤجّل في زمن التحوّلات التي تعيد رسم الخرائط في كلّ مكان.