سوريا: الصراع حول “الفراغ” الروسيّ المفترض

مدة القراءة 5 د

تتحرّك المسألة السورية على نحو لافت داخل سياق الحرب الكبرى التي تخوضها روسيا في أوكرانيا. أطراف النزاع الكبار في سوريا معنيّون أيضاً بمجريات الصراع بين موسكو والغرب. روسيا، وهي اللاعب المفترض أنّه الأوّل والأقوى فوق الأراضي السورية، باتت لها أولويّات داهمة تكذّب الزعم بأنّ حربها الأوكرانية هي “عمليّة عسكرية خاصّة” وحسب. وإذا ما تقلّص حضور موسكو في سوريا، فإنّ في الفراغ ما يغري بقيّة اللاعبين.

على هذا يمكن فهم هذه الهمّة الروسية المفاجئة لنفي الفراغ وتأكيد إمساكها بالأمر السوري. من خارج أيّ سياق أعادت موسكو إحياء آليّة آستانة (منتصف حزيران المقبل) التي تضعها وطهران وأنقرة داخل قالب الشراكة في تقرير مصير سوريا ومساراتها في السياسة والميدان. وإذا ما أراد الكرملين الإيحاء للعالم بأنّ “العملية” الأوكرانية لا تؤثّر على تحكّم موسكو بنفوذها في بلدان عديدة في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وبالتحديد في سوريا، فإنّ أطراف الصراع السوري الكبار لا يقنعهم ذلك.

التطاحن الإيراني التركي الإسرائيلي داخل سوريا يجري على قاعدة انكفاء روسي وغموض أميركي، ولا يجري من أجل سوريا

لفتت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الأخيرة لطهران في 9 أيار إلى تحرّك تحتاج إليه إيران في المناورة مع الحلفاء قبل الخصوم، لتأكيد نفوذها السوري والجهر بخطط مقبلة لتطويره وضمان تمدّده.

الأرجح أنّ رسائل طهران من وراء تلك الزيارة كانت موجّهة إلى الحليف الروسي أوّلاً للتعبير عن الشروع في الاستفادة العمليّة من أيّ انسحاب تنفّذه القوات الروسية من سوريا من أجل الجهد الحربي في أوكرانيا. سواء كانت منافع ذلك الانسحاب ميدانيّة تتيح تسلّم المواقع التي تهجرها القوات الروسية، أو اقتصادية سياسية تمنّي طهران النفس بغياب موانعها.

رسائل إيرانية إلى العرب

في الرسائل ما كان موجّهاً إلى البيئة العربية التي أوحت أنّ التطبيع مع نظام الأسد في دمشق من شأنه المساهمة في إبعاده عن الخيار الإيراني والدفع به للعودة إلى “الحضن العربي”. ولئن لمّح مشهد لقاء الأسد مع القادة الإيرانيين إلى مقارنة مع لقائه القادة الإماراتيين في آذار الماضي، فإنه على الرغم من أنّ زيارة الأسد الإماراتية جرت بمعرفة إيرانية مسبقة، إلا أنّ ما صدر عن طهران رسميّاً في ما يتعلّق بزيارة الأسد يذكّر من يهمّه الأمر أنّ لإيران القول الفصل في ملفّ هو من ملفّات النزاع العربي – الإيراني الشاملة.

طالت رسائل طهران أيضاً، إضافة إلى روسيا والعرب، إسرائيل في عزّ التوتّر المتصاعد حول البرنامج النووي من جهة ودور إيران المهدِّد لإسرائيل في سوريا ولبنان. صحيح أنّ الحضور الإيراني العسكري يتعرّض لضغوط عسكرية إسرائيلية تستفيد من “ورطة” روسيا الأوكرانية، لكنّ تعويض الخسائر بمزيد من التموضع والتمدّد على حساب الانكماش الروسي في سوريا، يتيح لطهران هامش مناورة أوسع لتأكيد صلابة نفوذها وقدرتها على التعامل مع العامل الإسرائيلي، وحتى المضيّ في تهديده وجعل مؤثّراته محدودة وتحت سقف لا يتجاوز خطوطاً حمر.

ولئن تملك إيران القدرة على تحريك بيادق لتحسين موقعها في سوريا مقابل تراجع في مواقع بيادق موسكو، فإنّ إسرائيل تملك ذلك أيضاً.

إسرائيل وتركيا أيضاً

يوحي تكثيف العمليات العسكرية النوعيّة والكمّية التي طالت وتطال أهدافاً ومواقع إيرانية حول دمشق ومن جنوب البلاد إلى شماليها الغربي والشرقي، بأنّ إسرائيل تهرول أيضاً للاستفادة من “الفراغ” الروسي الطارئ، وربّما بغياب أو ضعف الروادع الروسية. فهي تسعى أيضاً إلى فرض قواعد جديدة للّعبة مع طهران تطيح بأيّ أخطار إيرانية، سواء احتاج الأمر إلى تنفيذ عمليات أمنيّة داخل إيران، كتلك التي طالت (في 22 أيار) الضابط في الحرس الثوري العقيد حسن صياد خدائي في طهران، أو ضرب مواقع إيرانية في سوريا، أو التلويح بحرب لضرب البرنامج النووي والاستعداد بالمناورات لهذا الاحتمال.

داخل هذا البازار يندرج تحرّك تركيا المتعدّد الواجهات صوب سوريا. إذ عاد العامل السوري ليكون من ضمن الجدل الداخلي بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وأحزاب المعارضة تمهيداً للانتخابات المقبلة. فأن يَعِدَ إردوغان (في 3 أيار) بإعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، ثمّ ينفي (في 9 أيار) نيّة تركيا طرد اللاجئين، ويتعهّد بعدم إعادتهم إلى “أفواه القتلة”، فتلك قضية هي من أوراق السجال الداخلي، لكنّها أيضاً من أوراق المساومة مع المجتمع الدولي في شأن ملفّ سوريا.

غير أنّ الإعلان التركي عن عملية عسكرية داخل شمال سوريا وامتداداتها هو تموضع جديد له أجنداته وحساباته على إيقاع التراجع الروسي في هذا البلد.

يسعى إردوغان إلى تحسين أوراق النفوذ التركي في سوريا في ظلّ حاجة الغرب إلى “أطلسيّة” أنقرة، وحاجة روسيا إلى إبقاء موقف تركيا المطلّة على البحر الأسود “متوازناً” لا يذهب مذهب الأطلسيّين. ويرمي إلى تدعيم أوراقه السورية بمواكبة تعطيله لطموحات فنلندا والسويد للالتحاق بالناتو من أجل مساومة واشنطن في تقديم تنازلات بشأن الملف الكردي شمال وشرق سوريا.

إقرأ أيضاً: شعار أميركا: نسر أو دجاجة؟

الواقع أنّ التطاحن الإيراني التركي الإسرائيلي داخل سوريا يجري على قاعدة انكفاء روسي وغموض أميركي، ولا يجري من أجل سوريا.

يبقى السوريون، نظاماً ومعارضةً، خارج معادلات القرار. والواقع أيضاً أنّ للتطوّرات السورية بالنسبة إلى أطراف الصراع ظلالاً خارجياً حصرياً لا علاقة لها بمصير سوريا. والظلال تخرج من تحوّلات دولية كبرى تستدرج تموضعهم داخل مواقع ليست سوريا إلا واحدة منها. وحدهم السوريون يدركون هول الكارثة التي تعيشها بلادهم على إيقاع جلبة ليست إلا أعراضاً جانبية لعلاجات بعيدة.

* كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…