عتمة جبران تابعة لثقافة الموت

مدة القراءة 5 د

يتلهّى اللبنانيون بأمور كثيرة من نوع الزواج المدني، وهو موضوع مهمّ، لكن ليس في أهمّية غيره من المواضيع التي في طليعتها الخبز اليوميّ للمواطن ووضعه المعيشي ومصير ماله في المصارف والعزلة العربيّة للبنان.

يبقى مطلوباً في نهاية المطاف عدم إضاعة اتجاه البوصلة، أي موضوع سلاح “حزب الله”. هذا السلاح المذهبي الميليشيويّ، التابع لإيران و”الحرس الثوري” فيها، في أساس كلّ المصائب التي حلّت بالبلد أخيراً وحوّلته إلى بلد محتلّ.

من بين المصائب التي حلّت ما كشفته الانتخابات النيابيّة الأخيرة عن غياب أيّ تنوّع داخل الطائفة الشيعية التي من المفترض أن تكون نموذجاً في هذا المجال. نموذج على غرار ما هو حاصل لدى الطوائف الأخرى التي لا يزال فيها من يقاوم الهيمنة ووضع اليد عليها. يدلّ على ذلك التنوّع المسيحي الواضح والتنوّع الدرزي النسبيّ… والسنّيّ إلى حدّ بعيد.

نجح “حزب الله” شيعياً في الانتخابات فيما خسر على صعيد لبنان، أقلّه ظاهراً

لم يعد سرّاً، من خلال ما أظهرته نتائج الانتخابات، أنّ “حزب الله” استطاع وضع يده على الطائفة الشيعية ومصادرة صوتها. يكفي الواقع المتمثّل في أنّ لديه 27 نائباً شيعياً من أصل 27 في مجلس النواب. هل صحيح أنّه يمثّل كلّ الطائفة التي تُعتبر من بين الأغنى بالرجال اللامعين من ذوي الفكر المستنير والطليعي في لبنان؟

الجواب عن هذا السؤال أنّ الحزب يمتلك كلّ النواب الشيعة، لكنّه ليس كلّ الشيعة. ليس كلّ الشيعة على الرغم من فرضه أمراً واقعاً، وعلى الرغم من وضوح هيمنته على حركة “أمل” وتحويلها إلى ملحق به منذ انتصاره على هذه الحركة في حرب إقليم التفاح أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

إنّه انتصار كانت له ترجمته السياسيّة لبنانياً وإقليمياً، في مجال طبيعة العلاقة بين النظامين في سوريا وإيران تحديداً، نظراً إلى أنّه حوّل “أمل” إلى واجهة للحزب لا أكثر. عمليّاً طبّق تجربة “السلاح يحمي الفساد” في المجال الشيعي قبل نقل التجربة الناجحة إلى الحقل المسيحي حيث فرض الثنائي ميشال عون – جبران باسيل في موقع رئاسة الجمهوريّة.

 

نجاح وخسارة

نجح “حزب الله” شيعياً في الانتخابات فيما خسر على صعيد لبنان، أقلّه ظاهراً. لماذا ظاهراً؟ يعود ذلك إلى أنّ مصير لبنان واللبنانيين لا يهمّ “حزب الله” إلّا من ناحية واحدة، هذه الناحية هي أن يكون البلد مجرّد ورقة إيرانيّة. لا يهمّه أن يبقى نظام مصرفي في لبنان أو يبقى مسيحي في لبنان… أو ما حلّ ببيروت وبمرفأ المدينة. لا يهمّه انقطاع الكهرباء ومَن يتحمّل مسؤولية ذلك ومَن أصبح وزيراً للطاقة بفضل سلاح الحزب. لا يهمّه في طبيعة الحال مَن غطّى فساده بسلاح الحزب في مقابل توفير غطاء مسيحي للسلاح الإيراني في لبنان.

ظاهراً، كانت الخسارة الأولى للحزب على الصعيدين المسيحي والدرزي. أثبت المسيحيون ذلك برفضهم لهيمنة “التيّار العوني”. هناك بداية ظهور وعي مسيحي لمدى خطورة هذا التيّار المرتبط بغرائز الطبقة دون الوسطى، وهي غرائز تنمّ عن تعصّب عميق، ذي طابع مرضيّ، تجاه المسلمين من جهة، وجهل بما يدور في المنطقة والعالم من جهة أخرى .

يكتشف المسيحيون شيئاً فشيئاً معنى أن يحوّلهم “الحرس الثوري” الإيراني إلى مجرّد أداة من أدوات “حزب الله”، أي أدوات لدى أداته اللبنانية. فشل “حزب الله” مسيحياً في ضوء سعيه إلى نقل تجربته الشيعيّة التي قامت على فكرة تغيير طبيعة الطائفة وطبيعة المجتمع. ما عبّرت عنه الانتخابات، التي شهدت سعياً لدى الحزب إلى تكبير حجم الكتلة النيابيّة لجبران باسيل، على حساب “القوات اللبنانيّة”، كان فشلاً نسبيّاً في هذا المجال. فشل الحزب، في أماكن عدّة، في تركيب كلّ الأعضاء الاصطناعيّة المطلوبة لشخص مثل جبران باسيل لم يعد يمتلك الكتلة المسيحيّة الكبرى على الرغم من كلّ ادّعاءاته.

 

انهيار في الانهيار

درزيّاً، أثبتت الطائفة تماسكها وصحّة خيارها الوطني ورفضها أن تكون مخترقة. لفظت كلّ أزلام النظام السوري وكلّ المتملّقين لـ”حزب الله”. لكنّ كلّ ما حصل في الانتخابات يثبت أنّ لبنان يظلّ الخاسر الأكبر، خصوصاً أنّ الثنائي ميشال عون – جبران باسيل أدّى الجانب الأهمّ من المهمّة المطلوبة منه، مهمّة تدمير الاقتصاد اللبناني والمقوّمات التي قام عليها هذا الاقتصاد، منذ ما قبل الاستقلال وتهجير أكبر عدد من اللبنانيين، خصوصاً من المسيحيين، من البلد. هذا يعني أنّ مرحلة ما بعد الانتخابات ستكون في غاية الصعوبة في بلد ليس لدى “حزب الله” من مكان يأخذه إليه سوى الفراغ الذي لا ترجمة له سوى مزيد من الانهيار. يعاني لبنان من انهيار في الانهيار في وقت يتأكّد أكثر أنّ العالم، بمن في ذلك العالم العربي، خصوصاً الخليج، يتعاطى معه من منطلق أنّه بلد ساقط عسكرياً وسياسيّاً.

يظلّ أهمّ دليل على هذا السقوط اللبناني أنّ المواقع الثلاثة الأساسيّة في البلد يتحكّم بها “حزب الله”، وهي مواقع رئيس مجلس النوّاب ورئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهوريّة. إذا كان من اختزال لتجربة الانتخابات التي أثبت اللبنانيون من خلالها أنّهم ما زالوا يقاومون الاحتلال الإيراني الذي يرتكز عليه “حزب الله”، فإنّ هذا الاختزال هو عبارة واحدة: السلاح أهمّ من الانتخابات!

إقرأ أيضاً: إيران ستعاقب لبنان!

السلاح أتى بـ27 نائباً شيعياً من أصل 27. فشل الحزب في نقل تجربته الشيعية مسيحياً ودرزياً وسنّياً، لكنّه نجح في بلوغ هدفه الأساسي المتمثّل في تعميم ثقافة الموت وتحويل لبنان دولة فاشلة بعد فرض عتمة جبران باسيل على كلّ زاوية من الوطن الصغير. يبدو أنّ ثقافة الموت وعتمة جبران باسيل مترابطتان كلّ الترابط عضويّاً… عتمة جبران تابعة لثقافة الموت بل استكمال لها.

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…