التحرّكات الدبلوماسيّة في الشرق الأوسط: ضرورات أم خيارات؟

مدة القراءة 7 د

كانت آخِر التحرّكات ذات الدلالة عودة السفراء الخليجيين، وفي طليعتهم السفير السعودي ثم السفير الكويتي وبعدهما القطري، إلى بيروت، وإعلان الوفد المفاوض من صندوق النقد الدولي تقديم ثلاثة مليارات دولار إلى لبنان إذا استوفى شروط الإصلاح وخطّة التعافي. إنّما قبل ذلك كانت هناك اجتماعات على مستويات عالية في شرم الشيخ وعمّان والقدس والنقب، شارك فيها رؤساء ووزراء، وكان العنصر الفاعل فيها جميعاً دولة الإمارات العربية المتحدة ووليّ عهدها محمد بن زايد أو وزير خارجيّته. وبما لا يخرج عن هذا السياق التوليفي كانت هدنة الشهرين باليمن القابلة للتجديد بين الحوثيين والحكومة الشرعية بواسطة المبعوث الدولي تيموثي ليندر كنغ، واجتماع السياسيين والأحزاب والجهات السياسية اليمنية بالرياض ونقل السلطة من الرئيس اليمني عبد ربّه منصور هادي إلى مجلس قيادة رئاسي يقوده راشد العليمي يتولّى السلطة حتّى نهاية المرحلة الانتقالية، ويشرف على تنفيذ الاتفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتبرُّع المملكة العربية السعودية لليمن بثلاثة مليارات دولار لدعم النقد والاقتصاد.

لا يمكن أن تكون الهدنة باليمن قد تمّت لولا الموافقة الإيرانية، لأنّ الإيرانيّين هم الذين يُديرون الشأن السياسي والتسلّح في الجانب الحوثي. بل ويمكن القول إنّ اتفاق صندوق النقد مع الحكومة اللبنانية مبدئيّاً على تقديم الدعم، ما كان يمكن أن يتمّ لولا اطّلاع الحزب المسلَّح عليه. لقد أثار قرار صندوق النقد وقرار عودة السفراء استبشاراً لدى اللبنانيين انعكس في تصريحات رئيس الحكومة المتفائلة، وفي خطاب البطريرك الماروني يوم أمس الأحد.

لا أحد يريد الحرب أو تصعيد الصراعات. لكن ما تزال إيران هي التحدّي الأكبر. وقد تجد لها مصلحة في تفجير الصراعات الجانبية للضغط على الأميركيين والعرب معاً

استعادة التوازن

كلّ هذا جانب. وفي الجانب الآخر فإنّ الاجتماعات السياسية والدبلوماسية في شرم الشيخ وعمّان والقدس والنقب لا تشير إلى إعداداتٍ للحرب أو التوتّر، بقدر ما تعني محاولات لاستعادة التوازن والانضباط على مشارف الاتفاق النووي، كما ضُبط الخلاف بين الولايات المتحدة من جهة، والسعودية ودولة الإمارات من جهةٍ ثانية.

هذه الاجتماعات الشديدة الحراك ذات دلالات. فالاتفاق النووي إن تمّ فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران. وفي الوقت نفسِه فإنّ التباعد الكبير بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا بسبب الحرب الروسيّة على أوكرانيا، ينبغي أن لا يعني اندلاع صراعاتٍ أو توسيعها في الشرق الأوسط الذي يوجد فيه العسكريون الروس والأميركيون بعضهم في مواجهة بعض. إلى ذلك فإنّ التوتّر الأميركي – الخليجي بسبب الخلاف على زيادة إنتاج النفط العربي التي تطالب بها الولايات المتحدة حلفاءَها، في حين يأباها الخليجيون، ينبغي أن لا يزيد الهوّة بين الطرفين أو الأطراف. ويقوم الخليجيون برفع التحدّي تجاه الولايات المتحدة لا باستحضار إسرائيل فقط، بل واستحضار مصر لجهة حرصها على أمن البحر الأحمر، والحرص على الأمن العربي والخليجي بعامّة.

المقصود من تجمّع القوى هذا هو الحرص على إحداث توازُن في هذه المنطقة التي تحضر فيها القوى جميعاً، بحيث يفكّر أيّ طرفٍ مراراً قبل تأجيج المزيد من الصراع. وفي الوقت نفسه لا يحدث فراغٌ في المنطقة لمصلحة إيران، بسبب الانشغالات الأميركية والروسية بأوكرانيا. والمقصود أيضاً هو الحدّ للمرّة الأولى من إمكانيات إيران لنشر الاضطراب بالمنطقة للضغط لإجراء الاتفاق النووي. ولا ننسى أنّ إيران لديها البالستيات والمسيَّرات في كلّ مكان، وينبغي أن لا تظلّ طليقة السراح في الاستخدام في البرّ والبحر والجوّ، فيما يتصاعد الخلاف بين إيران والولايات المتحدة بشأن رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب شرطاً لإنفاذ الاتفاق النووي أو إحقاقه، ويتنازعون بشأن ضمانات استمرار الاتفاق بعد انعقاده.

 

تجنّب الصراعات

هي ضغوط متبادلةٌ وشديدةٌ تمارسها سائر الأطراف بعضها على بعض. والمقصود بها من جانب العرب بالذات تجنّب تفجّر المزيد من الصراعات التي تضرب الجميع، وتوقع أضراراً وانهيارات. في اجتماع النقب حيث حضر خمسة من وزراء الخارجية، حضر أيضاً وزير الخارجية الأميركي، فاستمع إلى مطالب المجتمعين لجهة التوجّس من إجراء الاتفاق النووي، والتوجّس من رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب. ولا شكّ أنّ وزير الخارجية الأميركي استمع من جانب الحاضرين إلى اعتباراتهم التي تحول دون التصعيد مع روسيا. ولا شكّ أيضاً أنّهم استمعوا إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن وهو يشرح لهم اعتبارات الولايات المتحدة في إجراء الاتفاق واعتقاد الأميركيين أنّ ذلك يقيّد من تحرّكات إيران المزعزِعة للاستقرار، فضلاً عن أنّ هناك مصلحةً مشتركةً في أن لا تمتلك إيران سلاحاً نووياً، وأن لا تصبح إيران حليفاً استراتيجياً للروس بالمنطقة ولجهة باكستان وأفغانستان. لكنّ الأميركيين يدركون حاجة إيران إلى تصدير نفطها وغازها، وهو من مصلحتهم، وليس من مصلحة الروس. ولا بدّ أن يدرك الخليجيون أنّ من مصلحتهم في المديَيْن المتوسّط والطويل البقاء في تحالفٍ وثيقٍ مع الولايات المتحدة، على الرغم من الانزعاجات الحالية. والأمر الأخير الذي يبدو أنّهم تشاوروا فيه فيما بينهم ومع الأميركي هو الدور الذي تقوم به تركيا مع الروس وفي المنطقة بعد التحسّن الكبير في علاقات تركيا بإسرائيل، وإمكانيّات التحسّن في علاقات تركيا بدولة الإمارات وبمصر. وأخيراً وليس آخِراً الإعدادات الدفاعية التي يمكن لأميركا تقديمها لحفظ أمن دول المنطقة إذا زاد الإيرانيون وميليشياتهم الضغوط على الأمن قبل الاتفاق وبعده.

لا يمكن الحديث عن تحالفٍ بعد تكون إسرائيل جزءاً منه، ولا تغيب عنه تركيا. لكنّه بحثٌ عن صيغٍ للتعاون في حفظ الأمن في الملفّات المشتركة. إنّما تبقى هناك ثقوب أو إمكانيات اختلال. وأهمُّ وجوه هذا الاختلال ضعف الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نفتالي بينيت. وقد ازداد ضعفها بفقدها لأكثريّة الصوت الواحد بالكنيست وإمكان سقوطها. والمشكلة في عودة بنيامين نتانياهو أنّه سيركّز من أجل الشعبية الداخلية على مصارعة الفلسطينيين بالضفّة، وحماس في غزّة. ولن تكون علاقاته جيّدةً بإدارة جو بايدن. أمّا الثقوب الأُخرى فتتمثّل في قدرات إيران على استعمال حماس في غزّة. ويبدو أنّ هذا الاستعمال قد بدأ من جديد. ثمّ هناك القوّة المتصاعدة لإيران في لبنان من خلال حزب الله والانتخابات المقبلة. وإقدام إيران على تحدّي القواعد الأميركية في سورية، في حقل العمر النفطي، وقاعدة التنف. هذا ويبرز تعقُّد المشهد السياسي في العراق مع إمكان فشل مقتدى الصدر والمزيد من الضعف لدى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وإلى هذا وذاك وذلك فإنّ خروقات الهدنة باليمن تتزايد. وقد يعود الاستنزاف من هناك.

إقرأ أيضاً: عودة السفير السعودي انتصار للمعتدلين

لا أحد يريد الحرب أو تصعيد الصراعات. لكن ما تزال إيران هي التحدّي الأكبر. وقد تجد لها مصلحة (كما حصل من قبل مراراً) في تفجير الصراعات الجانبية للضغط على الأميركيين والعرب معاً. وكما يفاوض العرب الأميركيين بشأن المصالح المشتركة التي يرون أنّ الأميركيين تجاهلوها، فإنّهم يفاوضون الإيرانيين سرّاً وعلناً على المصلحة المشتركة أيضاً.

ما عادت السياسات خيارات بقدر ما صارت ضرورات، ويا للعرب!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…