قصة عالمتين: الأولى لـ”داعش” والثانية لـ”نوبل”..

مدة القراءة 7 د

انشغلت الولايات المتحدة اثنتيْ عشرة ساعة بحادث إرهابي في ولاية تكساس، حيث احتجز شخص بريطاني حاخام كنيس وثلاثة من المصلّين لساعات طويلة. زعمَ الإرهابي أنّه شقيق الدكتورة عافية صديقي، وطالبَ بالإفراج عنها، مقابل إطلاق سراح الرهائن. ثمّ كان أن قُتِل الإرهابي، ولم يُصب أحد بسوء.

من هي عافية؟

وُلدت عافية صديقي في عام 1972 في باكستان، وتخرّجت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المرموق (MIT)، ثمّ حصلت على الدكتوراه من جامعة “برانديز” في علم الأعصاب.

استفادت عافية من التطوّر الكبير في علوم الأعصاب، ولا سيّما في جامعات الولايات المتحدة، حيث بات علم الأعصاب يتوزّع على 25 فرعاً، من علم الأعصاب الوجداني إلى الحيويّ، والسريريّ، والمعرفيّ، والتنمويّ، والجزيْئيّ، ثمّ تمتدّ فروع ذلك العلم المهمّ إلى الهندسة العصبية، والكيمياء العصبية، والفيزياء العصبية، والوراثة العصبية، والمناعة العصبية، وعدد من الفروع الأخرى.

تدرس علوم الأعصاب “الأساس البيولوجي للتعلّم والذاكرة والسلوك والإدراك والوعي”. وإذ تبدو نجاحات علم الأحياء واصلةً إلى مستوى غير مسبوق، فإنّ حقل الأعصاب لا يزال أمامه الكثير. وحسب العالِم الكبير إريك ريتشارد كاندل، الحائز جائزة نوبل عام 2000، فإنّ “علم الأعصاب يمثِّل التحدّي النهائي لعلم الأحياء”.

كريم مرطِّب للقتل

حظيت عافية صديقي بفرصة ثمينة لخدمة الإنسان، وخدمة بلادها. فلقد كانت محظوظة جدّاً بدراستها ذلك العلم المؤثّر في جامعات العالم الكبرى، وكان الواجب يقتضي أن تعود إلى كراتشي لتأسيس معهد حديث لعلوم الأعصاب، لتفيد بلادها بما استفادت، وتعيد لوطنها ما أعطى.

اختارت عافية صديقي طريقاً آخر، وراحت تعمل مع الجماعات المتطرّفة على إنجاح معادلة مدمّرة: العلم في خدمة القتل.

عاشت عالمة الأعصاب الباكستانية في منطقة بوسطن، وراحت تقنع زوجها بالمضيّ معها في طريق الدم. ومكثت سنوات تعدّ لاستخدام ما تعلّمت في دعم الأعمال الإرهابية، استناداً إلى علم الأعصاب.

في عام 2003 بدأت مطاردة طويلة بين الأجهزة الأمنيّة في الولايات المتحدة وباكستان وأفغانستان، التي حاولت قطع طريق عافية صديقي، ووقف مخاطرها، وتقديمها للمحاكمة.

لم تنجح واشنطن ولا إسلام آباد، لكنّ الشرطة المحلّية في أفغانستان نجحت في إلقاء القبض عليها عام 2008. ولم يكن ذلك بالطبع في عهد طالبان.

حسب الشرطة الأفغانية فإنّ عافية كانت تحمل موادّ خطرة في زجاجات كريم مرطّب، وكانت تحوز خرائط لحرب كيميائية. اتهمت بالتخطيط لحرب كيميائية، وبحيازة مخططات هندسية لجسر بروكلين ومبنى إمباير ستيت في نيويورك.

تعاونت الدكتورة عافية صديقي مع زوجها في رحلة الإرهاب، وتعاونت الدكتورة ماي موزر مع زوجها في رحلة العلم. انتهى طريق آل صديقي إلى السجن، وانتهى طريق آل موزر إلى جائزة نوبل

سيّدة القاعدة.. عالمة الأعصاب الفاشلة

تمّ إيداع الدكتورة عافية صديقي في سجن يتبع لقاعدة باغرام الأميركية الشهيرة في أفغانستان، وتمّ التحقيق معها عقب إلقاء القبض عليها. وحسب الإعلام الأفغاني وشهادات الحضور، فإنّ الدكتورة عافية نجحت في انتزاع بندقية وأطلقت الرصاص، فأصابت عدداً من الجنود الأميركيين، فتمّ إيداعها سجن قاعدة باغرام الشهيرة.

في عام 2010 حكم القضاء الأميركي على عافية بالسجن 86 عاماً، وتمّ إيداعها سجناً عسكرياً قرب دالاس. شهدت الدول الثلاث تظاهرات للإفراج عنها، وحين كان أنصارها من المتشدّدين يقولون ببراءتها، عرض تنظيم داعش على واشنطن تسليم عالمة الأعصاب في مقابل تسليم الصحافي الأميركي جيمس فولي الذي اختطفه التنظيم. وهو العرض الذي رفضته واشنطن. فكان أنْ استمرّت عافية في سجنها، وقام تنظيم داعش بإعدام الصحافي الأميركي. لقد كان طلب “داعش” تسليم عافية مقابل تسليم صحافي أميركي، ثمّ تقديم عروض أكبر مقابل تسليمها، تأكيداً على مدى أهميّة عالمة الأعصاب الباكستانية لدى “داعش” و”القاعدة”.

تشير مصادر عديدة، ليست منها عائلتها، إلى أنّ عافية، التي تطلّقت من زوجها، قد تزوّجت مرّة أخرى من ابن شقيق خالد شيخ محمد، العقل المدبّر لأحداث 11 أيلول الإرهابية.

يطلق الإعلام الغربي على الدكتورة عافية لقب “سيّدة القاعدة”، ويطلق آخرون عليها “سيّدة داعش”، ولم يطلق أحد عليها “سيّدة العِلم”.

إنّ صورة الشابّة عافية صديقي، وهي ترتدي زيّ التخرّج في “MIT”، كانت تشي بعالمة للمستقبل، لكنّ المسار الذي سلكته كان بعيداً تماماً عن ذلك المشهد المبهج، فلقد اختارت الدم على العلم.

ماي موزر.. عالمة الأعصاب الناجحة

تمثّل قصة عالمة الأعصاب الباكستانية عافية صديقي النموذج المضادّ تماماً لعالمة الأعصاب النرويجية ماي بريت موزر.

وُلدت الدكتورة موزر في عام 1963. درست في جامعتيْ أدنبرة وأوسلو، وتزوّجت من الدكتور إدوارد موزر، الذي يكبرها بعام، والذي درس هو الآخر في الجامعتين ذاتهما.

تعاونت الدكتورة عافية صديقي مع زوجها في رحلة الإرهاب، وتعاونت الدكتورة ماي موزر مع زوجها في رحلة العلم. انتهى طريق آل صديقي إلى السجن، وانتهى طريق آل موزر إلى جائزة نوبل. راحت عافية تطوّر علم الأعصاب لأجل الموت، وراحت ماي تطوّر علم الأعصاب لأجل الحياة.

يستخدم الملايين حول العالم نظام التموضع العالمي “GPS” لتحديد المواقع، ومعرفة طرق الوصول إليها. ولكن لم يفكّر كثيرون في نظام التموضع الإنساني، ذلك النظام الذي يجعل الإنسان يختزن في ذاكرته الطريق، فيعرف كيف يصل إلى المنزل، وإلى العمل، وإلى عدد كبير من المواقع في مناطق عديدة. أيّ “جي بي إس” بشريّ ذلك الذي يساعد المخّ في تحديد المواقع؟

ماي موزر وزوجها إدوارد قاما بالبحث عن “آلية تحديد المواقع داخل المخّ البشري”، وقد قادَ النجاح الكبير في أبحاثهما إلى الحصول على جائزة نوبل عام 2014.

درس آل موزر كيفيّة صُنع الإنسان خارطة للمكان، وكيف يجد طريقه في ذلك المحيط المعقّد، وما هي الطريقة التي يخزّن بها المعلومات حتى يتمكّن من معرفة الطريق في المرّة الثانية. اكتشف آل موزر “نظام تحديد المواقع داخل المخّ”، وقاما بتحديد أنواع الخلايا العصبية التي تولّد ذلك النظام بدقّة داخل المخّ.

إذا كان تحديد الأماكن عبر الأقمار الصناعية يسمّى نظام التموضع العالمي “جي بي إس”، فإنّ آل موزر ومعهما عالم الأعصاب الشهير جون أوكيف، الذي حصل معهما على جائزة نوبل، قد سمَّوا نظام تحديد المكان داخل المخّ “خلايا الشبكة”.

عالمتان.. وطريقان

في باكستان قامت عالمة الأعصاب عافية صديقي بالتعاون مع شبكة القاعدة وخلايا داعش. وفي النرويج قامت عالمة الأعصاب ماي موزر بإنشاء “مركز إحياء الذاكرة”، وشاركت في تأسيس “معهد علم الأعصاب في الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا”.

انشغلت عالمة الأعصاب عافية صديقي بكيفيّة عمل خلايا التنظيمات والجماعات، وانشغلت عالمة الأعصاب ماي موزر بكيفيّة عمل “خلايا الشبكة” داخل المخّ، في أثناء تنقّل الإنسان من مكان إلى آخر.

إقرأ أيضاً: الكريسماس والرصاص.. قراءة في كتاب الأمير تركي الفيصل

إنّ العالم الإسلامي أمام الخيارين ذاتهما: إمّا أن تعمل نخبته العلمية على تقدّمه وتطوّره، أو أن تعمل على تخريبه وتدميره، وإمّا أن يكون مسلك علماء المسلمين في المؤسسات الكبرى طريق عافية صديقي، أو طريق ماي موزر.

إنّها ليست فقط قصة عالمتيْن، بل قصّة منهجيْن، ومستقبل حضارتيْن.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…