بدأ “أساس”، منذ اليوم الأخير في 2021، بنشر سلسلة مقالات وتقارير تحاول قراءة أبرز أحداث العام الماضي، وما ستتركه من تداعيات على العام الجديد 2022.
ما من ساحة، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي، كانت محطّ اهتمام ومسرح أحداث مفصليّة في عام 2021 كما كانت الساحة العراقية بسبب ما شهدته من أحداث وتطوّرات جعلتها بمنزلة “ميزان الذهب”، الذي تُقاس وقيست عليه موازين القوى ومستقبل العلاقات، سواء الداخلية منها أو الإقليمية أو الدولية.
رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي جاء إلى موقعه في أعلى سلطة سياسية وعسكرية وتنفيذية نتيجة تسوية داخلية وإقليمية ودولية، ومعه برنامج واضح ومعلن يقوم على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ومعالجة الفساد والأزمة الاقتصادية، وإعادة فرض هيبة الدولة وضبط السلاح المنفلت. وقد استطاع أن يُخرج العراق من الأزمة والانسداد السياسيّيْن اللذين تفجّرا جرّاء تراكم موجات الاعتراض الشعبي الذي تمظهرت صورته الأخيرة في “الحراك التشريني”. حراك ترافق مع أحداث أمنيّة كان بمقدورها أن تطيح بهذا البلد واستقراره وتُدخله في أتون حروب داخلية، أو تجعل منه ساحة تصفية حسابات بين قوى مؤثّرة ومتصارعة على ساحة الإقليم، نتيجة الأعداد الكبيرة من الضحايا التي سقطت بين المتظاهرين على أيدي قوى “مجهولة الانتماء”.وهناك الحدث المفصليّ الأمنيّ الذي برز بسبب قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الإطاحة بقائد قوة القدس في حرس الثورة الإيرانية الجنرال قاسم سليماني، باعتباره رأس المشروع الإقليمي والمحرّك الأساس للأذرع الإيرانية في المنطقة.
شهد العراق محطّات متعدّدة خلال السنة المنصرمة، داخلياً وإقليمياً ودولياً، بإمكانها أن تتحوّل إلى منطلقات لتأسيس مرحلة جديدة من الحياة السياسية في العراق ما بعد عام 2003، وتحديداً عراق ما بعد 2017، والانتهاء من معركة استعادة المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش. وذلك على الأقلّ على مستوى إعادة بناء الدولة التي بدأت ملامحها ترتسم في نهايات عهد رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.
1- إعادة بناء القوات المسلّحة:
كانت أولى هذه المحطّات الداخلية ذات التأثير الخارجي، تفعيل الزخم والجهد اللذين بدآ بإعادة بناء المؤسسة العسكرية والقوات المسلّحة بعد النكسة التي تعرّضت لها بعد سقوط الموصل عام 2014، وتداعيات تشكيل مؤسسة عسكرية موازية تأطّرت لاحقاً في هيئة الحشد الشعبي خارج سلطة الدولة قبل أن تنتظم تحت إمرة القائد العام للقوات المسلّحة باعتبارها صنفاً عسكرياً مستقلاً لا يندرج في هرميّة وزارة الدفاع.
كان من المفترض بهذا المستوى أن يمرّ عبر إجراء مفصلي وأساسي هو التعامل مع السلاح المنفلت وضبط الفصائل المسلّحة غير المنضوية تحت عنوان المؤسسة الرسمية للحشد الشعبي. إلا أنّ التعامل مع هذه الفصائل والسلاح المنفلت، وعلى الرغم من الغطاءين الإقليمي والدولي اللذين حصلت عليهما الحكومة لتنفيذه، هيمن عليه حالة كرٍّ وفرٍّ. وأكثر الأحيان كان لمصلحة هذه الفصائل على حساب المؤسسة العسكرية وهيبة القائد العام للقوات المسلّحة. تماماً كما حصل مع اعتقال مجموعات من كتائب حزب الله في منطقة “البوعيثه” وردّة فعل هذه الجماعة واحتلالها للمنطقة الخضراء ومحاصرة مقرّ رئيس الوزراء، الذي أُجبر على إطلاق سراح المعتقلين. ثمّ تفاقمت الأمور بعد اعتقال “قاسم مصلح” أحد قادة ألوية الحشد الشعبي، ثمّ إطلاق سراحه بعداستعراض عسكري للفصائل في قلب العاصمة بغداد وحصارهم للمنطقة الخضراء.
هذه الحالة من التعامل الرسمي مع الفصائل، وإن جاءت على حساب هيبة المؤسسة العسكرية وموقع رئاسة الوزراء وقيادة القوات المسلّحة، إلا أنّها أسّست،من دون تخطيط من هذه القيادة، لنوع من الانحسار في شعبية هذه الفصائل، وحتى شعبية مؤسسة الحشد الشعبي، جرّاء التصرّفات والسلوكيّات الميليشاوية التي مارستها، في وقت كان العراقيون يتطلّعون بعد حراك تشرين إلى العودة إلى تفعيل الدولة ومؤسّساتها والخروج من حالة التخبّط والتفلّت. وهو ما أظهر هذه الفصائل وكأنّها تعمل لتكريس مبدأ “دولة داخل الدولة”، مربكةً بذلكأداء مؤسسة الحشد الرسمية، التي تردّدت في حسم موقفها، لكنّها انتصرت في النهاية لمنطق الدولة والالتزام بالمؤسسة الرسمية وإمرة قيادة القوات المسلّحة.
شهد العراق محطّات متعدّدة خلال السنة المنصرمة، داخلياً وإقليمياً ودولياً، بإمكانها أن تتحوّل إلى منطلقات لتأسيس مرحلة جديدة من الحياة السياسية في العراق
2- حراك تشرين وتداعياته:
لعلّ أخطر ما شهده العام المنصرم، هو الجدل حول مصير “حراك تشرين”، وما تعرّض له من تفكيك أخرجه من دائرة التأثير التي كان يطمح لها، وتحويله إلى رافعة سياسية وانتخابية لبعض القوى المنبثقة عنه، أو التي استطاعت ركوب موجته،فكانت النتيجة تأخير وعرقلة مسار التغيير المطلوب والتقليل من سرعته.
المنطق السياسي لبعض القوى سعى إلى تسويغ التفكيك هذا، انطلاقاً من أنّ التغيير السريع من دون تأسيس محكم قد يؤدّي إلى النتائج نفسها التي انتهت إليها تجربة الأحزاب والقوى التي تُحسَب على الإسلام السياسي والتي أنتجت فصائل مسلّحة خارج منطق الدولة وعلى حسابها ومستفيدة منها في الوقت نفسه. واستند هذا المنطق إلى المخاوف من نقل العراق إلى صدامات مفتوحة مع الجماعات المسيطرة والقادرة على تعطيل كلّ مفاصل الدولة والمجتمع دفاعاً عن وجودها. وقد تبلور هذا المفهوم في التشتّت الذي عانت منه قوى تشرين في الانتخابات البرلمانية المبكرة وعدم قدرتها على تكريس وجودها السياسي بشكل واسع في البرلمان الجديد. إلا أنّ التفكيك أنتج من ناحية ثانية حالة إحباط شعبي نتيجة تحويل قوى تشرين إلى رافعة لمشاريع من خارج مشروعها التغييري، وجعلها أداة من أجل تكريس قيادات جديدة على حسابها.
3- الانتخابات المبكرة:
إجراء الانتخابات المبكرة، وعلى الرغم من الإشكاليات التي رافقتها، واعتراض القوى السياسية والفصائل المسلّحة على نتائجها، انتهى إلى نتائج قد تحمل مؤشّرات تعافٍ سياسي يعيد للدولة موقعها ويعزّز دور مؤسساتها إذا ما جرى استثمارها بالشكل الصحيح ومن دون استفزاز. فقد أسّست هذه الانتخابات لإنتاج مراكز قوى على حساب الأحزاب التي سيطرت على المشهد السياسي خلال العقدين الماضيين.
4- خروج “الإسلام السياسي”:
وإذا كان من المبكر القول بخروج قوى الإسلام السياسي من المشهد العراقي، لأنّ هذه القوى قد أُصيبت بنكسة قاسية جرّاء النتائج الانتخابية التي خفّضت تمثيلها الشعبي، أو بتعبير أدقّ، كشفت حجم هذا التمثيل الحقيقي، فهي مازالت قادرة على ترميم وضعها والبقاء شريكاً أساسيّاً في العمليّة السياسية، خاصة أنّ الرهان صعب على القوى الجديدة التي كرّست نفسها باعتبارها جهاتٍ ممسكة بالقرار الشعبي، وتتذبذب بين التوجّه المدني والمؤسسي وبين الانتماء إلى الإسلام السياسي،مثل التيار الصدري. فضلاً عن تكريس قوى أخرى، من المكوّنين السنّي والكردي، قوى مهيمنة وصاحبة تمثيل حصري للجماعات التي تنتمي إليها.كلّ هذا يجعل من الطبيعي القول إنّ هذه الانتخابات وضعت أسس التغيير في المستقبل، لكن يجب عدم التسرّع بوصفها حالة تغييرية شاملة وواسعة بالكامل.
5- العودة إلى الحضن العربي:
على المستوى الإقليمي، يمكن القول إنّ الحكومة العراقية استطاعت تثمير الجهود التي بدأت في السنوات الأخيرة،والتأسيس عليها لإعادة دمج العراق في محيطه الإقليمي، خاصة العربي، وتحديداً الانفتاح على الجوار الخليجي. الأمر الذي سمح بإعادة وضع العراق على الخارطة الإقليمية، بوصفه وسيطاً يطمح إلى توسيع دوره وتعزيزه على طريق استعادة الدور المحوري في العالم العربي والإقليمي والدولي. إذ استقبل العراق القمّة الثالثة لقيادات محور العراق، الأردن، مصر، تحت عنوان طموح”الشام الجديد”. فضلاً عن التأسيس لمرحلة جديدة من التعامل والتعاون بين العراق والمملكة العربية السعودية،مع ما فيها من رهان على إعادة التوازن للساحة العراقية التي تحوّلت إلى ساحة تجاذب وصراع بين القوى الإقليمية السعودية والإيرانية والتركية.
انتهت الانتخابات البرلمانية المبكرة إلى نتائج أعادت توزيع موازين القوى، تحديداً داخل المكوّن الشيعي، بين التيّار الصدري والأحزاب المحسوبة على التيار الإيراني وعلى حساب الأخير
6- دور “الوسيط”:
هذا الانفتاح أو الجهد السياسي الذي عملت على بلورته حكومة الكاظمي، وجد ترجمته الواضحة في دور “الوسيط” الذي لعبه العراق، في استضافة الجولة الأولى من الحوار السعودي –الإيراني في العاصمة بغداد. وهو شكّل خرقاً في جدار الصراع الإقليمي بين الطرفين، وفتح الطريق أمام جولات حوار أخرى ساهمت وأسّست لمرحلة من التقارب بين البلدين من المتوقّع أن يكون لها انعكاسات إيجابية كبيرة وواضحة على مختلف الملفّات الإقليمية التي تشكّل ساحة صدام ونزاع بينهما.
وإذا ما كان قرار الذهاب إلى حوار استراتيجي بين العراق والولايات المتحدة قد جاء متأثّراً بالتصعيد والتوتّر غير المسبوقين بين واشنطن وطهران على الساحة العراقية نتيجة اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، إلا أنّه في المقابل شكّل مساحة تفاهم بين الطرفين على تحييد العراق وتسهيل العملية السياسية. وقد سمح تواطؤ طرفيْ الأزمة الأميركي والإيراني للحكومة العراقية بالدفع باتجاه تسوية مقبولة لدى الطرفين حول الوجود العسكري الأميركي في العراق، والتوصّل إلى صيغة التفافيّة على المطلب الإيراني المدعوم من الفصائل العراقية الموالية لطهران، تقضي بانسحاب القوات القتالية الأميركية والإبقاء على عديد من المستشارين والمدرِّبين.
7- القمّة العربية الإقليمية:
ساعدت هذه التفاهمات الإقليمية والدولية في أن يشهد العراق نشاطات دبلوماسية ودينية ذات تأثير واضح، كالقمّة العربية الإقليمية الدولية بمشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى الزيارة التي قام بها رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا فرنسيس للعراق، والحجّ الإبراهيمي الذي قام به، واللقاء التاريخي الذي عقده مع زعيم الحوزة الدينية الشيعية في العالم آية الله السيد علي السيستاني في مدينة النجف.
8- فشل “مكافحة الفساد”:
أمّا في الجانب الاقتصادي، فإنّ المواطن العراقي لم يلمس نتائج واضحة في موضوع مكافحة الفساد والهدر المزمن والمتراكم، الذي شكّل إحدى مهمّات الحكومة الانتقالية الأبرز.فنشأت حالة من الإحباط فاقمتها نتائج قرار الحكومة الذي جاء في إطار الورقة الإصلاحية الاقتصادية: “الورقة البيضاء”.قرار قضى بخفض قيمة العملة الوطنية أمام الدولار الأميركي، متسبّباً بأزمات اقتصادية طالت شرائح واسعة من الشعب العراقي وأنتجت حالة من التضخّم والركود الاقتصادي. الأمر الذي أربك المشهد الاقتصادي لعمل الحكومة التي كانت وعدت بمعالجته. وهذا مجال مفتوح أمام المختصّين بالموضوع الاقتصادي لمعالجة من الصعب أن تكون بعيدة ومفصولة عن الجانب السياسي.
إنّ منطق التسويات الذي ترافق مع هذه الأحداث، والذي اعتمدته الحكومة العراقية، وما رافقه من اتّهام لها بتقديم تنازلات داخلية وإقليمية، هما اللذان يسمحان بالقول إنّ عام 2021 كان عام “الفرص الضائعة”، لجهة أنّ ما توافر منها لم يُستثمر بالكامل على طريق إعادة الدولة ومؤسّساتها.
ماذا في 2022؟
انتهت الانتخابات البرلمانية المبكرة إلى نتائج أعادت توزيع موازين القوى، تحديداً داخل المكوّن الشيعي، بين التيّار الصدري والأحزاب المحسوبة على التيار الإيراني وعلى حساب الأخير. كما ساهمت في تكريس ثنائية القطبية لدى المكوّنات الأخرى، السنّيّة والكرديّة، مع تنويعات غير مقرّرة. لكنّ نوايا الذهاب إلى مرحلة إصلاحية تبدو غير واضحة. خاصة أنّ الصراع السياسي بين أقطاب البيت الشيعي يقوم حول طبيعة الحكومة المقبلة، التي من المفترض أن تحمل مشروعاً إصلاحياً يستند إلى إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، بحيث يتمسّك الطرفان بالسقف الذي وضعه لطبيعة الحكومة المقبلة. فأحدهما يريد أغلبيّة وطنية من التيار الصدري، والآخر يريدها ائتلافية من قوى الإطار التنسيقي. وهذا كلّه يدفع الأمور باتجاه إعادة إنتاج حكومة تلفيقيّة، تكون “أغلبيّة ذات طابع ائتلافيّ” أو “ائتلافيّة ذات طابع أغلبيّ”. وهو ما يعني أنّ إمكانية تعطيل مسار الإصلاح قائمة بقوّة، نتيجة تصادم أو تعارض مصالح كلّ طرف سيكون مساهماً في تركيب الحكومة الجديدة، الأمر الذي يهدّد بإمكانية إبقاء العراق في دائرة المراوحة والشلل وتحت إدارة حكومة تسعى إلى استرضاء جميع الأطراف على حساب مصالح الدولة. وهذا يقود إلى إنتاج “حكومة إدارة أزمة”، مع جهود متواضعة في الإنماء وإعادة البناء والتنمية الاقتصادية ومعالجة الأزمات المتراكمة والمزمنة.
إقرأ أيضاً: العراق يتمرّد: ثلاث لاءات عربية
أمّا على صعيد الدور التوازني للعراق بين القوى الخارجية الفاعلة على الساحة العراقية، فهذه القوى تريد إبقاء العراق مساحةَ تفاهماتٍ ومكاناً لترجمة الحوارات الثنائية بين المتخاصمين أو المختلفين، سواء بين إيران والمحيط العربي، أو بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. والدليل هي الإشارة التي صدرت عن المرشد الأعلى للنظام الإيراني في اليوم الأوّل بعد انسحاب القوات القتالية الأميركية، حين رحّب بحذر بهذا الانسحاب، لافتاً إلى ضرورة تعامل القوى العراقية “بذكاء” مع ما تبقّى من الوجود الخارجي والصيغة الأميركية المعتمدة بعنوان المدرّبين والمستشارين. وهذا يعني أنّ طهران لن تكون راغبة في ذهاب العراق إلى التصعيد أو التوتير في المرحلة المقبلة في حال سارت الأمور بإيجابية في مفاوضات فيينا حول الأزمة النووية. لأنّ انهيار فيينا سيعيد فتح المنطقة على جميع الاحتمالات ولن يكون العراق خارج هذه الحسابات.