رفيق الحريري… قاعدة التسوية في لبنان

2022-02-18

رفيق الحريري… قاعدة التسوية في لبنان

لم تكن ذكرى 14 شباط هذا العام كسابقاتها. وليس تعليق الرئيس الحريري عمله السياسي وحسب ما جعل الذكرى الـ17 لاغتيال الرئيس الحريري مختلفة. فالظرفان السياسي والاقتصادي السيّئان اللذان يمّر بهما لبنان، فيما لا تلوح في الأفق أيّ بوادر لتعافٍ حقيقي وسريع، ولّدا انطباعاً عامّاً بأنّ ماضي البلد أفضل من مستقبله. وهذا انطباع خطيرٌ في حدّ ذاته، إذ يدلّ على ضعف الأمل لدى غالبيّة اللبنانيين بمستقبل بلدهم، وكأنّ ماضي رفيق الحريري هو بالنسبة إليهم المستقبل الوحيد، ولو كان مستقبلاً مستحيلاً.

خلاصة التراجيديا اللبنانية الآن هي أن يُدفن مستقبل بلد مع رجل قُتلَ اغتيالاً، لا لأنّ مشروعه هو الوحيد المبشّر بمستقبل أفضل للبنان، بل لأنّه على الرغم من مرور 17 عاماً على اغتياله فإنّ لبنان ما يزال عالقاً بين استحالة تجاوز مشروعه وبين عجز أيّ طرف سياسي على طرح مشروع جديد قابل لأن يتحوّل إلى مشروع وطني حقيقي، أي إلى مشروع يحظى بقدر من الإجماع اللبناني يجعله ممكن التحقّق من دون أن يكون عنوان انقسام حادّ في البلد.

على الرغم من مرور 17 عاماً على اغتياله فإنّ لبنان ما يزال عالقاً بين استحالة تجاوز مشروعه وبين عجز أيّ طرف سياسي على طرح مشروع جديد قابل لأن يتحوّل إلى مشروع وطني حقيقي

ليست الغاية مناقشة مشروع الحريري وظروفه المحلّيّة والإقليمية، خصوصاً أنّ جوانب عديدة من هذا المشروع لم تُروَ بعد، وبالتحديد لجهة علاقة الحريري مع دمشق وتحرّكها على فالق التوازنات الإقليمية والدولية، وإلى أيّ حدّ وكيف حاول الحريري رسم الحدود بين نظام الوصاية السورية وبين الدولة، أو بالتحديد أكثر بين هذه الوصاية وبين مشروعه. لكنّ الأكيد أنّ هذه الحدود كانت جزءاً رئيسياً من مشروع الحريري، لأنّه لم يكن ممكناً من دونها وإلّا تحوّل مشروع الوصاية السورية إلى مشروع دائم لا قدرة على تجاوزه.

في المقابل فإنّ مشروع حزب الله غير قابل للتحقّق إلّا في حال أُلغيت الحدود بينه وبين الدولة. وهو ما يجري العمل عليه منذ التسوية الرئاسية في 2016، وتجذّر أكثر بعد انتخابات 2018 التي سلّمت الحزب مجلس النواب وتشكيل الحكومات. بل إنّ هذا الإلغاء هو في صلب مشروع الحزب، لكنّه إلغاء يحمل في طيّاته كلّ “أعطاب” هذا المشروع. فإذا كانت الدولة اللبنانية هي المركز البديهي لإجماع اللبنانيين، فإنّ هيمنة الحزب عليها ينزع عنها هذا الإجماع لأنّ مشروعه لا يحظى بحدّ أدنى من إجماع اللبنانيين. وذلك بخلاف مشروع الحريري الذي تشكّلت من حوله قنوات إجماعية وطنية بالاقتناع وبالمصلحة الحياتية. ولذلك فقد كان الحريري قادراً على المماهاة بين هذا الإجماع حوله وبين الإجماع حول الدولة كشرط ضروري للخروج من زمن الحرب.

ساعد رفيق الحريري في ذلك أنّ تصوّره للبنان ما كان انقلابياً على التراكم التاريخي للبلد في تعدّديّته السياسيّة والثقافية وفي نموذجه الاقتصادي. لذلك فإنّ مشروعه كان ذا ديناميّة وطنية واضحة، ولم يكن مشروعاً فئويّاً وثأريّاً محمّلاً بالأحقاد السياسيّة والطائفية، فيما غرق لبنان بعد مقتله في بحر المشاريع الراديكالية الفئوية، وعلى رأسها مشروعا حزب الله والتيار الوطني الحر اللذان يختزنان الكثير من ديناميّات الثأر السياسيّ والطائفي وأدبيّاته.

الإرباك الكبير

 لا شكّ أنّ حضور سعد الحريري في المشهد السياسي طوال 17 عاماً هو دليل واضح على تجذّر مشروع رفيق الحريري في المعادلة اللبنانية، لا من الناحية السياسيّة وحسب، بل من الناحيتين الرمزية والعاطفية أيضاً. وذلك لأنّ رفيق الحريري جسّد صورة عن لبنان ما تزال غالبيّة اللبنانيين تتمسّك بها وتطمح إلى استعادتها كأمل وحيد لبقاء البلد أو لبقائهم فيه.

مقاطعة تيار المستقبل للانتخابات هي بحدّ ذاتها ورقة ضعط كبرى في أيّ معادلة جديدة، ولا سيّما في ظلّ تزامن هذه المقاطعة مع طرح الورقة الكويتية – الخليجية حول لبنان التي لا يمكن الظنّ أنّها كُتبت لتُنسى

قد ينطوي ذلك على بُعدٍ “نوستالجيّ” يشوّش قراءة الحاضر ومتغيّراته وتحدّياته، لكن عدم تبدّد الإجماع اللبناني حول مشروع الحريري الأب على الرغم من مرور 17 عاماً على اغتياله وعلى الرغم من الدعاية السياسية المتواصلة لربط الانهيار الاقتصادي بسياساته، هو بحدّ ذاته تحدٍّ كبير لخصوم الحريريّة في مرحلة ما بعد تعليق سعد الحريري لعمله السياسي.

ويُستشفّ من المقاربات الإعلامية والسياسيّة لمرحلة “ما بعد الحريري”، أنّ هناك إرباكاً أو عدم وضوح في تعاطي الأفرقاء، وفي مقدّمهم حزب الله، مع هذا المعطى الجديد والرئيسي في المشهد السياسي، أي “اعتزال” الحريري. فهل يتعامل الحزب مع “خروج” الحريري كنقطة لمصلحته أو كنقطة ضدّه، أو بين بين؟

القول إنّ الحزب مُطمئنّ في المطلق لخروج الحريري من المعادلة السياسيّة ينطوي على تسرّع. فالوقائع أثبتت حتّى الآن أنّ تأثير الحريري في هذه المعادلة بعد “اعتزاله” فاق بما لا يُقاس تأثيره فيها إبّان “حضوره”. فالحريري ما كان قادراً على خلط الأوراق ضمن اللعبة السياسية بفعل تحكّم الحزب بقيود هذه اللعبة، وأمّا الآن فإنّ “اعتزاله” خلط الأوراق، لا على الساحة السنّيّة وحسب، بل على الساحة اللبنانية عموماً.

هذا الأمر لا تقتصر تبعاته على الانتخابات النيابية لجهة تحالفاتها ونتائجها، بل إنّ قرار الحريري له تبعات أكيدة على مرحلة ما بعد الانتخابات، ولا سيّما إذا دخلت المنطقة، ومن ضمنها لبنان، في دائرة التسويات الدولية والإقليمية لحلّ نزاعاتها.

الانتخابات… للتغيير

لعلّ الإصرار الدوليّ على إجراء الانتخابات مردّه إلى الرغبة في كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها الوضع اللبناني منذ أكثر من سنتين. وهو ما يخلق أرضيّة مناسبة لعقد تسوية للأزمة اللبنانية تأسيساً على الوقائع الجديدة التي تفرزها هذه الانتخابات.

لكن هل يمكن توقّع تسوية قابلة للحياة إذا لم تحظَ بمباركة سنّيّة، على غرار كلّ التسويات التي حصلت في لبنان منذ العام 2005، وحتّى منذ انتهاء الحرب الأهليّة، بعدما انزاحت الدينامية الرئيسية في النظام السياسي من الثنائيّة المارونية – السنّيّة إلى الثنائية السنّيّة – الشيعية. فحتّى التسوية على رئاسة الجمهورية في العام 2016 كانت تسوية سنّيّة – شيعية على الرغم من كلّ ادّعاءات الأطراف المسيحية فيها.

أمّا الآن فهناك اختلال كبير في هذه المعادلة. بل إنّ “اعتزال” الحريري أسقط هذه المعادلة بشكلها القديم من دون أن تتّضح بعد معالم أيّ معادلة جديدة للمرحلة المقبلة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ نتائج الانتخابات لن تكون المحطّة الفصل في تحديد المعادلة السياسية الجديدة.

إقرأ أيضاً: رفيق الحريري: التهاب الذكرى والذاكرة!

فمقاطعة تيار المستقبل للانتخابات هي بحدّ ذاتها ورقة ضعط كبرى في أيّ معادلة جديدة، ولا سيّما في ظلّ تزامن هذه المقاطعة مع طرح الورقة الكويتية – الخليجية حول لبنان التي لا يمكن الظنّ أنّها كُتبت لتُنسى، بل هي مرشّحة لكي تكون سقفاً تفاوضيّاً عربياً – لبنانياً في أيّ مفاوضات إقليمية ودولية لحلّ الأزمة اللبنانية في المرحلة المقبلة.

ولذلك يهدِّئ حزب الله اللعب مع تيار المستقبل، ومع السُنّة عموماً، وأيضاً مع الأميركيين في موضوع ترسيم الحدود البحرية جنوباً، لكنّه يُبقي على تصعيده ضدّ الدول العربية الخليجية، لأنّه يتعامل مع “اعتزال” الحريري كورقة ضغط عربية ضدّه في أيّ مفاوضات مستقبلية بشأن لبنان، سواء انحصرت في الاتفاق على اسم رئيس الجمهورية المقبل، أو بحثت في تعديلات النظام اللبناني. وفي الحالين فإنّ التسوية مستحيلة من دون موافقة “إجماعيّة” سنّيّة.  

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…