نهاية إسرائيل

هل خرجت إسرائيل من حسابات اللبنانيين؟ مردّ السؤال، أنّ خبر الكشف عن 17 شبكة تجسّس إسرائيلية لم يعِش في أحاديث اللبنانيين أبعد من فترة إذاعته. صحيح أنّ فداحة الأزمة الاقتصادية وبهلوانيّات مصرف لبنان الماليّة، تستنزف طاقة اللبنانيين وقدرتهم على التركيز. لكنّ ذلك لم يمنع أن يستأثر باهتمامهم، خبر “النبي نشأت”، وسخافة اعتقاله من قبل الأجهزة الأمنيّة، العاجزة عن توقيف أيّ متّهم ذي معنى، في أيّ ملفّ ذي معنى.

يكاد الحديث عن توقيف شبكات تجسّس إسرائيلية لا يتجاوز النفخ المفتعل في القنوات المحسوبة على محور الممانعة والمقاومة، فيما لا يبدو أنّه يعني اللبنانيين حقيقة.

إسرائيل القريبة، حدوديّاً، تبدو بعيدة عن حسابات الناس. هي أصبحت بعيدة أصلاً في حسابات حزب الله نفسه. آخر الحروب عام 2006، حدثت من 16 عاماً، وإدانة حزب الله، على خلفيّة التسبّب بها، تشكّل قناعة راسخة عند شرائح لبنانية هائلة.

ليست إسرائيل من دمّرت لبنان، مرفأً وعملةً واقتصاداً ومدرسةً وجامعةً ومستشفى

في المقابل، حين بكى رئيس كتلة حزب الله البرلمانية محمد رعد أخيراً أمام الناس، بكى على الحوثي والحوثيين في اليمن، وعلى عناصر من حزبه يسقطون جرحى وقتلى في صراع بعيد.. وعلى خبرات عسكرية، ثمّة من يتكبّد نقلها لتوظيفها في حرب، ثبت أن لا قدرة لحزب الله على إقامة صلة بينها وبين اللبنانيين عامة وجزء كبير من الشيعة خاصة!

في السياق نفسه قلّة قليلة، لا تزال تتحدّث عن صلة لإسرائيل بانفجار مرفأ بيروت. حتى حزب الله الذي “يمتلك القرائن والأدلّة” لاتّهام إسرائيل بكلّ ضرر يصيب لبنان واللبنانيين، حتى خصومه، سارع “لتبرئة العدوّ الغاشم”، لأنّه لا يريد أن يتكبّد عناء الردّ.

آخر الملفّات الفعليّة العالقة بين اللبنانيين وإسرائيل، هو ملف ترسيم الحدود البحرية. انطباع معظم الناس أنّ من يمنع الترسيم الواقعي هو حزب الله بغية تأبيد النزاع أو إطالته ما أمكن، وتجنّب تجرّع كؤوس التطبيع المباشر وغير المباشر التي سترافق ما بعد الترسيم. يعرف الناس، بحسّهم السليم، أنّ حزب الله يريد مناخ الصراع لا الصراع الفعلي، ومناخ المقاومة لا المقاومة الفعلية، وأنّه عبر الصراع والمقاومة يبني آلة هائلة للهيمنة عليهم واستتباعهم ومصادرة قرارهم ومستقبلهم.

لن أدخل في لعبة التشكيك بمدى مصداقية خبر توقيف 17 شبكة، أو المبالغات التي رافقته. لكن فعلاً، ما حاجة إسرائيل لهذا الكمّ من الشبكات، التي بحسب الإعلام الممانع، تتركّز بين جنبات جمعيّات المجتمع المدني؟ ما حاجة إسرائيل للتجسّس على المجتمع المدني واختراقه ولأيّة أغراض؟ إذا كان ثمّة جواسيس، فجدواهم أن يكونوا داخل حزب الله نفسه، أو في الأطر التي تتفاعل بشكل مباشر معه. زدْ على ذلك أنّ الخبر يفيد أنّ معظم “الجواسيس” لا يعلمون أنّهم جواسيس يعملون لحساب إسرائيل!

يريد حزب الله من الناس أن تستهول الشبكات، وأن يجعل من الاختراق الإسرائيلي المفترض خبراً يجدّد عبره حيويّة العنوان الذي يتلطّى خلفه، لتبرير وظيفته كمقاومة، ولو ما عادت تقاوم. بيد أنّه مبتغى صعب المنال. فالناس التي سمعت خبر الشبكات الـ 17، سرعان ما تذكّرت صمت حزب الله أمام “إجلاء” عامر الفاخوري من لبنان عبر السفارة الأميركية، بعد أن أُسقطت عنه تهم العمالة لإسرائيل وتعذيب المساجين في معتقل الخيام، في المحكمة العسكرية، التي يمون عليها الحزب.

صمت على الفاخوري. وتقاعد عن قتال إسرائيل. وبكاء على الحوثي والحوثيين.

اللياقة تمنع اللبنانيين من السخرية العلنية من خبر شبكات التجسّس الإسرائيلية. والحرص على المصداقية يجعل الكثيرين يلوذون بتجاهل قراءة المعاني الكامنة خلف أن لا يثير خبر بهذا الحجم أدنى اهتمام عند الناس. والخوف من سهولة التخوين والتشهير يُبقي ما في نفوس الناس وعقولهم طيّ الكتمان.

لكنّ الأكيد أنّ العنوان الإسرائيلي لم يعد في حسابات الناس، الذين يعرفون أنّ العدوّ في مكان آخر.

ليست إسرائيل من دمّرت لبنان، مرفأً وعملةً واقتصاداً ومدرسةً وجامعةً ومستشفى.

ليست إسرائيل من تذلّ الناس، أصحّاء ومرضى، شباباً وشيباً، متعلّمين وغير متعلّمين..

ليست إسرائيل من بدّد “مقدّرات اللبنانيين” ولا هي مصدر “الأطماع بأرزاقهم”.

ليست إسرائيل من تصنع اليوم الشتات اللبناني الأكبر منذ القرن التاسع عشر.

أن يلقى خبر اعتقال 17 شبكة تجسّس إسرائيلية هذا الكمّ من التجاهل السياسي والوطني والشعبي، لهو دليل على مدى الانهيار الذي تعانيه سرديّة حزب الله، وعلى العزلة التي بتنا نوقن أنّ الحزب يغلّف عالمه بها.

مرّ ردح من الزمن كان يُقال فيه، من باب التذاكي السياسي، أنّه ينبغي الفصل بين سلاح حزب الله في الداخل وسلاح المقاومة.

ما نكتشفه اليوم، بأكلاف هائلة، أنّ المقاومة هي أصل البلاء، وهي ما ينبغي إسقاطه أوّلاً، لأنّها هي روح السلاح.

المقاومة التي أُريد رفعها من مصافّ ممارسة طارئة تلجأ إليها الشعوب في لحظات إنسانية خاصة، إلى قيمة مطلقة يُبنى فوقها لبنان الجديد، كما بشّرنا محمد رعد يوماً، هذه المقاومة، هي العدوّ، وهي ما يسقط اليوم بسقوط سرديّتها.

إقرأ أيضاً: إسرائيل هزمت لبنان بيد الحزب

يعرف حزب الله أنّ تجديد النزاع، يتطلّب حرباً، ويعرف أنّ الحرب هذه المرّة لها حسابات مختلفة.

إنّها لحظة حقيقة بالنسبة للّبنانيين، والمطلوب تحلّيهم بالشجاعة، لأن يقولوا إنّ المقاومة هي العدوّ.

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…