في حالات الانهيار، يعمّ العبث السياسي. يعيش لبنان والمنطقة أحد أسوأ عصور الانحطاط. فالعبثيّة تقود إلى نموّ طفيليّات في كلّ المجالات والميادين فيختلط شذّاذ الآفاق مع أصحاب الرأي والقضايا. ويشكّل لبنان أحد أبرز المختبرات للانهيارات المتوالية. وباستثناء السلطة المطلقة التي يحظى بها الثنائي الشيعي في بيئته الداخلية، فإنّ العبثيّة تتفشّى لدى مختلف المكوّنات الاجتماعية الأخرى، سواء منها السنّيّة أو الدرزيّة أو المسيحيّة.
1- إذا أردنا البدء من الساحة السنّيّة، فعزوف كُثُر عن خوض المعركة الانتخابية، والصراعات البينيّة، وطعن الخناجر في الخواصر هي خير الدلائل والتجلّيات لحالة الانهيار. فقد وجد السُنّة أنفسهم يخوضون معارك فيما بينهم، معارك تقودهم إلى الاضمحلال إمّا عن سوء تقدير وإمّا عن مؤامرة خارجية تشترك فيها جهات متعدّدة.
جنبلاط هو الزعيم الوحيد الذي يمكنه بتصريح واحد أن يعيد خلط أوراق الرأي العام في لبنان رأساً على عقب، مثلما فعل يوم توجّه إلى الأمين العام لحزب الله بالسؤال عن لبنانيّة مزارع شبعا مثلاً
لا حاجة هنا إلى التكرار والدخول في الأسماء، لأنّك كنتَ أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، لكن لا حياة لمن تنادي. ولكلّ داء دواء يُستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها. وعليه لم يعد بالإمكان سوى تسجيل الموقف فقط، والقول إنّ كلّ الاستقالات التي ألزم تيار المستقبل كوادره بها في حال قرّروا المشاركة في الانتخابات ترشّحاً أو دعماً، لن تقود إلا إلى انهيار التيار وتفكّكه وإنهائه. وفي هذه الحالة سيكون المستفيد الأكبر هو حزب الله.
2- أمّا مسيحياً، فتبدو الساحة أكثر ترهّلاً على صعيد التيار الوطني الحرّ مثلاً، المشبع بخطابات شعبويّة تفوق مستوى التفاهة، والقائم على أسس التحشيد العصبي المذهبي، وسط استقالات متوالية من صفوف التيار اللافت فيها أنّ كلّ الاستقالات التي أقدم عليها نواب حاليون أو سابقون أو كوادر معروفة سابقاً لم تكن ناجمة عن اعتراض على المسار السياسي للتيار، إنّما عن اعتراض على التحاصص في المناصب، وغيرة من جبران باسيل الذي أصبح الحاكم بأمره. وفي هذا السياق سيكون حزب الله هو أكبر المستفيدين أيضاً، إذ أخذ المستقيلين بين يديه ورعاهم وأبقى باسيل بشهواته أسيراً لديه.
3- أمّا درزيّاً فالمسألة لا تحتاج إلى أيّ مقدّمات أو شرح، فقد باتت واضحة جدّاً أهداف حزب الله وكلّ من يسير في ركبه في الاستحقاق الانتخابي المقبل. فالقضية بالنسبة إلى الممانعة ليست قضية تنافس على برامج انتخابية، وهي ليست طبعاً بالنسبة إليهم سباقاً ديمقراطياً للوصول إلى البرلمان وتقديم الأفضل للناس. القضية ليست إطلاقاً عملية انتخابية، بل هي محاولة سطو موصوفة على ما تبقّى من دولة، ومحاولة إسقاط آخر القلاع التي يعتبر الحزب أنّها تمثّل نوعاً من تراث لبنان ووجوديّة كيانه، بالنظر إلى التوازي بين المختارة وبكركي، ولا سيّما أنّ وليد جنبلاط يشدّد في كلّ مواقفه على التنوّع ولبنان الحرّ الديمقراطي، لبنان الذي لا ينتمي بتاريخه ووجوده وفكرته وتكوينه إلى أنماط الشمولية العقائدية، ولن ينتمي.
في هذا المجال، يشكّل الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط بتاريخه وتجربته ورؤيته، ومعهما شريحة وطنية كبيرة من الشخصيات المستقلّة والتمثيل الشعبي الكبير، السدّ المنيع في مواجهة المشروع الرامي إلى القضم النهائي للبلد، وقد بذلوا تضحيات كبيرة لمنع سقوط البلد. ناوروا مراراً، وهادنوا أحياناً، وهاجموا مرّات، وتصدّوا مرّات أخرى. وبين الكرّ والفرّ ما انفكّوا عن القيم والقناعات ذاتها، رافضين الإلغاء، متمسّكين بالحرّيات وبلبنان الكيان.
ولأنّ حزب الله يدرك حقيقة ما يمثّله جنبلاط، فهو يحاول الاستفراد به على مستوى الساحة الوطنية، وتحديداً الإسلامية، إثر انسحاب تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري من الحياة السياسية، ويسعى بكلّ ما أوتي من قدرات إلى تطويق جنبلاط، ومحاولة خنق صوته.
لكي يطمس حزب الله معالم معركته المباشرة مع جنبلاط، يعمد إلى تشغيل أجهزة الاستخبارات السورية في البقاع الغربي لكي يتلطّى خلفها لأنّ المرشّح الشيعي في هذه الدائرة ينتمي إلى حركة أمل لا حزب الله
جنبلاط هو الزعيم الوحيد الذي يمكنه بتصريح واحد أن يعيد خلط أوراق الرأي العام في لبنان رأساً على عقب، مثلما فعل يوم توجّه إلى الأمين العام لحزب الله بالسؤال عن لبنانيّة مزارع شبعا مثلاً. إذا ما نجح حزب الله في هذه المحاولة يكون قد أحكم الطوق على الساحة الوطنية وأسكَتَ كلّ معارضيه، تاركاً القوات اللبنانية على مستوى القوى المسيحية إلى مرحلة أخرى يخوض فيها معركته معها عبر التيار الوطني الحر. في ين أنّ لعبة رئاسة الجمهورية كافية لتحويل الأنظار عن الهدف الأساس. ومن هنا تكتسب معركة جنبلاط بالتكافل والتضامن مع السُنّة في الانتخابات المقبلة هذا البعد الوطني، وهي تشكّل محطة من محطات الصراع لبقاء لبنان.
معركة الدوائر الدرزيّة
لكي يطمس حزب الله معالم معركته المباشرة مع جنبلاط، يعمد إلى تشغيل أجهزة الاستخبارات السورية في البقاع الغربي لكي يتلطّى خلفها لأنّ المرشّح الشيعي في هذه الدائرة ينتمي إلى حركة أمل لا حزب الله. لذلك يتولّى رموز النظام السوري وسفيره في لبنان إدارة المعركة هناك.
الأمر نفسه في بعبدا والمتن الأعلى وبيروت، حيث رموز العمل الأمني السوري عادوا جميعهم إلى الواجهة. أمّا في الشوف فإنّ الوزير السابق وئام وهاب يلعب دوره المطلوب، إذ يسعى ظاهراً إلى مهادنة جنبلاط وممارسة دور توفيقيّ على مستوى الساحة الدرزية، فيما يعمل من خلال جماعته على توفير الأرضيّة المناسبة لحزب الله في الشوف.
في غضون ذلك يتولّى بعض الإعلاميين المحسوبين على حزب الله مهمّة تخبئة كلّ ما يجري تحت غطاء اللعبة الديمقراطية والتنافس الانتخابي، ويعمدون إلى تمرير رسائل في الإعلام تزعم أنّ جنبلاط ليس مستهدفاً وأنّ الرئيس نبيه بري يراعي جنبلاط. لكنّهم عبثاً يحاولون، فالناس لم تعد تنطلي عليها هذه المحاولات، ولم ينسَ الرأي العام بعد مَن قال إنّه يخوض “حرب تموز” في الانتخابات، وإنّه “سيكنّس” خصومه من لبنان.
استثمار المجتمع المدنيّ
كي يضاف المزيد من العبث كان لا بدّ من الاستثمار في المجتمع المدني وشعاراته، التي كان أبرزها شعار “كلّن يعني كلّن”، الذي أُطلق من دون أيّ تدقيق أو تمحيص، فعرف الحزب كيفيّة اختراق المجتمع المدني وتغيير شعاراته لمصلحته. فيما أُصيب خصومه بالوهن والضعف، فانكفأوا تاركين الساحة للحزب كي يتسيّد المعركة بعد إجهازه على ثوار 17 تشرين أو المجتمع المدني. وبذلك تحوّل بعض “الثوار” إلى مشروع يخدم حزب الله دون غيره ربّما عن غير قصد، والأخطر إذا كانوا يفعلون ذلك عن قصد.
إقرأ أيضاً: هل يشكّل وهّاب لائحته في الشوف؟
في مطلق الأحوال، باتت الناس تعرف تماماً ما يجري، وكلّ محاولات التعمية على حقيقة المعركة مكشوفة. ولأجل ذلك فإنّ ما يُنقل عن جنبلاط يشير إلى أنّه قرّر خوض الاستحقاق الانتخابي بهدفين: الأول هو الشقّ المعيشي المطلوب معالجته لأنّ الناس بلغت درجة من اليأس لا تطاق، والجميع يشهد لجنبلاط وقوفه مع الناس في كلّ المحن التي مرّت بها. أمّا الهدف الثاني فهو منع حزب الله وجبهة الممانعة من تحقيق مبتغاهم في إحكام السيطرة على لبنان، مهما كلّف الأمر من تضحيات. وهذا يحتاج في المقابل إلى صحوة سنّيّة معطوفة على جرأة بدلاً من الانكفاء والهرب، ولا يمكن لذلك أن يستمرّ من دون التكامل مع الخطّ المسيحي السيادي.