لم يكن للراهب مارون أيُّ علاقة بتأسيس الموارنة. فهو عاش ومات ولم يعرف أنّ هناك من يُسمّون باسمه. عاش ناسكاً ومات وحيداً، قبل أن يتحوّل بعض مريديه جماعةً ديريّة، مع تيودوريطوس القورشي، بعد عقود على وفاته. وقبل أن يصيروا جماعة لها كنيسة، مع يوحنّا مارون، بعد قرون. وقبل أن يبدأوا مسارهم التدريجي التصاعدي صوب كيانيّة دولة، بعد ألفيّة كاملة… وقبل أن يُهدروا كلّ ذلك ويفرّطوا به ويضيعوه، بعد ألفيّتين!
ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، لم يكن للموارنة كمجموعة مواطنين لبنانيين أيّ علاقة بالمارونية السياسية. تماماً كما لم يكن السُّنّة كجماعة مواطنين آخرين هم من حاولوا تجربة السنّيّة السياسية، في عمرها القصير. واليوم، لا علاقة للشيعة حتماً بمغامرة الشيعية السياسية الراهنة.
هي ثلاث تجارب سلطوية. بثلاثة خطابات تسويغيّة لها. سقطت الواحدة تلو الأخرى. مع فروقات كبيرة. ومع مخاطر جسيمة هذه المرّة.
*****************************
مقارنة ثلاثيّة مختصرة
من دون تدبيج لغوي ولا تجميل سياسي، يمكن وضع جدول مقارن أوّلي مختصر، للتجارب الثلاث، كالتالي:
1- وُلدت المارونية السياسية على أيدي طبقة سياسية متنوّعة المذاهب، رافقت مرحلة الانتداب الفرنسي، وجهدت للبقاء في السلطة في الحقبة الانتقالية، بين زوال الانتداب وبدايات الاستقلال.
فألّفت لذلك سرديّةً مفادُها أنّها كطبقة حاكمة كانت مستفيدة من الانتداب. وأنّها لم تنقلب عليه، إلا تقديماً منها لمصلحة الوطن على مصالحها الشخصية. وبالتالي، لولا موقفها المفصليّ والحاسم هذا، لما سقطت الوصاية الفرنسية. ولما تحقّق جلاء جيشها. ولما أُنجز الاستقلال الأوّل سنة 1943.
ولذا، ولسببين أساسيَّين وتأسيسيَّين: أوّلاً، للحفاظ على الاستقلال الناشئ، ولعدم تعريضه لأيّ انتكاسة وهو طريّ العود، وثانياً واستطراداً أو استلحاقاً، اعترافاً بفضل هذه الطبقة في تحقيق ما تحقّق، لا بدّ من تكريس هذا النظام، حيث تستمرّ طبقة الانتداب في السلطة بشكل دائم مؤبّد. وتكون بعمود فَقريّ مارونيّ، لأسباب تاريخية وواقعية معروفة. لكن مع ملحقات من مختلف الطوائف والجماعات.
2- ووُلدت السنّيّة السياسية على أيدي طبقة سياسية من كلّ الطوائف، كانت متعايشة مع الوصاية السورية. وحاولت طوال عقد ونصف المواءمة بين التنازل عن بعض الاستقلال، للحفاظ على بعض الاستقرار. ولمّا تراكمت عوامل كثيرة أدّت إلى اغتيال مؤسّسها، رفيق الحريري في 14 شباط 2005، انتقلت تلك الطبقة إلى تبنّي خطاب مطابق لخطاب المارونية السياسية البائد: نحن كنّا متعايشين مع السوري. ولم نختلف معه، إلا لأنّنا قدّمنا مصلحة لبنان على مصلحة النظام السوري وعلى مصالحنا الشخصية. ولذلك ردّ علينا بالقتل والاغتيال. ولولا دمنا المهروق بالعشرات من قادتنا ورموزنا، لما سقطت الوصاية السورية. ولما كان جلاءٌ لجيش الأسد البعثيّ من لبنان. ولما أُنجز الاستقلال الثاني.
وُلدت السنّيّة السياسية على أيدي طبقة سياسية من كلّ الطوائف، كانت متعايشة مع الوصاية السورية. وحاولت طوال عقد ونصف المواءمة بين التنازل عن بعض الاستقلال، للحفاظ على بعض الاستقرار
والآن، وحفاظاً على هذا الإنجاز الهشّ الفتيّ، وامتناناً للذين حقّقوه، على اللبنانيين القبول بنظام السنّيّة السياسية. حيث الحريرية السياسية عمودٌ فَقريّ للنظام. لكنْ معها شركاء من كلّ المكوّنات، وفق تركيبة تراتبيّة تصون الاستقلال والاستقرار.
3- وأخيراً جاء دور الشيعية السياسية، حيث الفوارق أكثر والدقائق أعمق. فهي وُلدت على أيدي طبقة سياسية غير متنوّعة، رافقت الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية. فكان لها دورٌ أساس في دحر الأوّل، فيما كانت حليفة أساسية للثانية، مستفيدة من سلطتها بوجودها، وغير متضررة من زوالها، إذ ورثتها في غيابها.
لكنّ الأهمّ، أنّ الشيعية السياسية منبثقة من تركيبة مرتبطة مباشرة بالنفوذ الإيراني المتدحرج في المنطقة، من صنعاء إلى بيروت. وخصوصاً بأيديولوجيته في المجتمع والدولة ومجالات الحياة كافّة.
لكنَ خطابها السلطويّ ظلَّ بلديّاً، مستنسخاً من التجربتين السابقتين، مع بعض هوامش: لولا دماء تضحياتنا لما دُحر الإسرائيلي سنة 2000. ولكان داعش وأخواته في قلب بيروت قبل عشر سنوات. ولكان الإسرائيلي اليوم يتنزّه في بعبدا بعد غزّة.
بالتالي، فالعنفوان الذي تعيشون اليوم في كنفه، هو ثمرة نضالاتنا وحدنا. ولذا، صوناً لهذا الوضع الجديد، واعترافاً بفضل من حقّقه، لا بدّ من قيام نظام الشيعية السياسية الآن. نظام ملائم للجميع. فهو لن يغيّر الدستور. ولن يعدّل في الحدود أو الأصول. يكفينا أن يكون قرار حزبنا هو عموده الفَقري. وهو الآمر، وخصوصاً الناهي، في كلّ تفصيل من مفاصله. مع انفتاحه على انضمام كلّ المكوّنات إليه. من رؤساء موارنة أقحاح. إلى رؤساء حكومات سُنّة بدلاء عن ضائع. انتهاء بكلّ الناس من طامع أو طامح أو ذمّيّ أو مؤمن مقتنع.
السلوك والسقوط
يقابل هذا الجدول المقارَن لحيثيّات التأسيس، جدولان آخران لكيفيّة السلوك … ثمّ السقوط:
فالمارونية السياسية، بمسيحيّيها وسُنّتها وشيعتها ودروزها، تكوّنت من سياسيين غربيّي الهوى، ولبنانيّي الهويّة. وهو ما جعل نظامها يستثمر في مسألتين: الحداثة على الطريقة الغربية. والخصوصية على طريقة التجربة اللبنانية المتميّزة.
كما أنّ السنّيّة السياسية، بكلّ أطيافها أيضاً، تشكّلت من سياسيين متوائمين مع التقاطع الغربي العربي. من ثلاثية دمشق الرياض باريس مع رفيق الحريري. إلى ثلاثية الرياض باريس واشنطن بشكل مؤقّت، مع سعد الحريري.
لذلك استثمر نظام السنّية السياسية في مجالَي الاستقرار والازدهار.
وفي هاتين الحالتين، كان لبنان حاضراً في الوجدان والسياسة. المارونية السياسية غالت بلبنانيّتها حتى “القوميّة”. والسنّيّة السياسية لم تتأخّر في مرحلتها الثانية، عن رفع مبدأ “لبنان أوّلاً”.
فيما الشيعية السياسية، مشكّلة بحكم تكوّنها شبه الساحق من شيعة الحزب حصراً، وفق النموذج الإيراني الخمينيّ. ولذلك فهي لم تستثمر فعليّاً إلا في خطاب فلسطين وأدوات الحرب لذلك. وهو ما يبدو اليوم في حالة نزاع يعلو أو يخفت، مع خطاب “لبنان السيّد المستقلّ”. والأهمّ في ظلّ الاجتهاد في استخدام أدوات هذا الخطاب المسلّحة والعنفيّة، على جبهات أخرى. من كوسوفو إلى كليمنصو.
وهو ما يفسّر، ولو من باب مجرّد المصادفة التاريخية لا غير، أنّ المارونية السياسية تزامنت مع مقولة “سويسرا الشرق”. فيما ترافقت السنّيّة السياسية مع مقولة إعادة إعمار ما بعد الحرب. ليبدو سوء حظّ الشيعية السياسية اليوم بأن تتزامن مع الانهيار والإفلاس الكاملين، ولو من دون أيّ مسؤولية عليها وحدها.
يبقى جدول مقارنة الصعود والسقوط:
بلغت المارونية السياسية ذروتها مع فؤاد شهاب. وهو بلا شكّ أعمق من فهم فلسفتها. فأعطى الانتماء السياسي العربي، وأخذ الاستقلال السيادي اللبناني.
لكنّها بدأت بالسقوط بعده مباشرة. نتيجة عجز مَن تسلَّمها عن مواكبة الظروف الخارجية، وفهم عمق تحوّلاتها. والأهمّ، نتيجة رفضه وفشله في تطوير النظام اللبناني، بحيث ينزع أحد فتائل التفجير الداخلي الذي صنع الحرب.
وبلغت السنّيّة السياسية ذروتها في فترة “التنافذ” (osmose) السياسي بين شيراك والأسد الأب وعبدالله بن عبد العزيز.
لتسقطَ في نسخة الحريري الأب، حين تفجّر هذا الانسجام السياسي، بدءاً من الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003. وقُضي عليها في نسخة الحريري الابن، بعد الحرب السورية، وتفجّر مثلّث باريس الرياض دمشق تحديداً. فيما هي لم يُحسن مسؤولوها قراءة هذه التطوّرات. ولم يدركوا طبيعة التبدّلات الداخلية في موازين القوى اللبنانية، بعد حرب تموز، وتفاهم عون مع الحزب.
إقرأ أيضاً: هكذا تصل إسرائيل إلى “كبار المسؤولين” وتغتالهم
الآن جاء دور الشيعية السياسية. فهي بلغت ذروتها في ظلّ تفاهمها مع المسيحي الأقوى، وتعايشها مع الزعيم السنّي. في ظلّ فورة إيرانية، وغضّ نظرٍ غربي ودولي وحتى إسرائيلي حيالها. فيما هي الآن على صراع كبير وعميق مع غالبية القوى اللبنانية. ولو كان مكتوماً أو كامناً. وهي على موعد مع أهمّ استحقاق خارجي لخطاب مشروعيّتها القتالية وتبرير سلاحها. فماذا لو تحقق المسار الدولي لقيام دولة فلسطين؟ وماذا لو تحرّرت كلّ الأراضي اللبنانية المحتلّة؟ وماذا لو لم يحصل ذلك، واستمرّت الحرب وتدحرجت صوب لبنان؟
هي مجرّد جداول أوّلية. تقتضي المزيد من البحث والتفصيل وخصوصاً المتابعة. وقد تقتضي العودة إلى جزئيّاتها، عند كلّ حادث وحديث. مع التذكير بأنّ الناس، موارنة وسنّةً وشيعة، لا علاقة لهم بتلك التجارب. هم مجرّد حطبٍ وعدّة شغلٍ وبيادق سلطة. في منطقةٍ، حيث الأصل اللغوي لمفهوم السياسة، مشتقٌّ من فعلِ انقياد الإبل لشخصٍ يملك القطيع، ويسوسه للرعي أو للذبح!
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@