عيشُ اللبنانيين صار يبعث على السأم والملل. لا يحركهم شيءٌ غير غرائزهم الطائفية والمذهبية. يتسيّد على عقولهم منطق القبيلة. الجماعة عندهم قبل الدولة. لا بل قُل قبل الوطن. ما إن يُلامس شيءٌ شيخَ قبيلتهم حتى يتحركون مغامرين بالسلم الأهلي. لا يتحدثون عن سلمٍ وطني. يصدرون عن كونهم جماعات لا مواطنين.
خلال اسبوعين جدت مفارقاتان تبعثان على الضجر:
ـ الأولى، الحملة على البطريرك الماروني الكاردينال الراعي وقراءته للحرب المحتدمة جنوباً. القراءة على علّتها جاءت ردّاً على رسائل وردته. وكان ردّه من طبيعة مسيحية، في حين كان يمكنه أن يجعلها وطنية لأنّ ما يعانيه الجنوب يعانيه في كلّ بيئاته وطوائفه. لكن هو الآخر بدا على سجية الللبنانيين عموماً.
ـ الثانية، إقرار “موازنة صُدق” عن المجلس النيابي الذي يعتكف عن كونه ذي صفة انتخابية لا تشريعية. البرلمان فعل ذلك بانتظار الاتفاق على مواصفات الرئيس لا شخصه أو اسمه.
بين الأمرين كانت فكرة المواطنة تسابق الزمن نحو الدولة الفاشلة. في زمن سابق كانت المسارعة تحبو حبواً وتسير بخطى السلحفاة. هذا زمن مضى وانقضى. الآن صارت السمة الغالبة هي “البيئة” قبل الدولة.
ما نحتاجه اليوم هو تطبيق الدستور، والمضي وفق القوانين وعلى هديها، فهل هذا متوافر؟ ما نحتاجه اليوم هو “مطبِّق” (وليس المقصود هنا غازي كنعان آخر) أو آلة تطبيق، أو راعٍ لتطبيق الدستور
السياسة غرائز..
المُرعب في تدبّر اللبنانيين لبقائهم هو الصراخ المتكرر في الجمهوريتين عن أزمات العيش. في جمهوريتهم الأولى كانت مأساة بنك “انترا”. في الجمهورية الثانية كانت جريمة ضياع ودائع اللبنانيين في المصارف، بين ليلة وضحاها. لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا أنهم استسهلوا عيش “الفوائد والعائدات”، بلا سؤال عن الاقتصاد والسياسة. الاقتصاد عندهم هو إنفاق. السياسة هي غرائز وليست دولة.
في الجمهوريتيّن أيضاً، كانت السخافة عنوان الدولة. لا يعرف اللبنانيون ما إذا كانوا يعيشون في ظلال حضارة رأسمالية، أو نظام رأسمالي تطور إلى ليبرالية يعرفونها ام يجهلونها.
حسناً، الوعي السياسي مسألة شخصية فردية وتنعطف على التفكير الليبرالي. وإذا كان الأمر كذلك فما قولهم في الموازنة؟ وما هو تدبيرهم لاجتماع الحكومة؟
إذا كان لبنان تاريخياً، ملتقى الحضارات والثقافات والأديان، فهو حالياً، وبلا منازع، ملتقى الأزمات. صار بلد الولاءات لخارج ما. في هذا السياق تمسك لبنانيون كثر بغالبة واضحة على أنهم ينتمون إلى ما فوق الحدود الوطنية. لا مشكلة عندهم إذا ما انقطع بلدهم عن آصرته العربية. ولا ضير في أن يفقدوا جوهر الفكرة الوطنية عن العيش المشترك. ولا عن اعتبارهم كانوا في زمن قريب الجامعة والمستشفى والمصرف في هذا الشرق المُظلم.
على هذا فإن “وطن النجوم” الذي خاطبه إيليا أبو ماضي قبل قرن كامل، صار وطن الأزمات، ما أن تنقضي أزمة حتى تنبت أزمة جديدة. لم لا والتربة خصبة في ربوعنا، والبيئة ملائمة؟
وراء كل أزمة دولة أو محور
أزمة محروقات، لا تكاد تنقضي حتى تطلّ برأسها أزمة دواء، فأزمة مواد غذائية. وهكذا دواليك. يحدث هذا حالياً بسبب إقرار مشروع الموازنة للعام الحالي، لكنه يحدث بلا مشروع موازنة غالباً. يربطها البعض بالأزمات المتنقلة في الإقليم، ويذهب آخرون إلى ربطها بالأزمات والصراعات الدولية.
تترافق الأزمات هذه كلها، ما نبت منها وما لا يزال يطل برأسه من تحت التراب، مع أزمة كبرى محلية وإقليمية ودولية، لا قرار لنا فيها نحن اللبنانيين ولا حلّ ولا ربط، هي الحرب المندلعة في أقصى جنوب لبنان إسناداً للغزيين الذين تشنّ عليهم إسرائيل حرباً وحشيةً لا هوادة فيها.
إذا كان لبنان تاريخياً، ملتقى الحضارات والثقافات والأديان، فهو حالياً، وبلا منازع، ملتقى الأزمات. صار بلد الولاءات لخارج ما. في هذا السياق تمسك لبنانيون كثر بغالبة واضحة على أنهم ينتمون إلى ما فوق الحدود الوطنية
من النادر أن يربط باحث أزماتنا المحلية التي وحدها ما يُصنع في لبنان، بشروطها المحلية. حتى لتغدو المعادلة الثابتة والواضحة والجلية لمن يتابع وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتصريحات السياسيين في الوطن الصغير، محددةً: وراء كل أزمة دولة، وخلف كل محنة وطنية كبيرة محور عظيم.
وعليه، تصير المعادلة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية في لبنان أقرب ما تكون إلى معادلة “حسني البورظان” الشهيرة في المسلسل السوري الشهير “صح النوم”: “إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، يجب أن نعرف ماذا في البرازيل”. وهكذا: إذا أردنا أن نعرف ماذا في لبنان، علينا أن نعرف ماذا في غزة تارةً، وفي إيران تارةً أخرى، وماذا يدور في خلد عُمقنا العربي.
ينسى كثر أن ما يجري هنا إنما ينبت في تربة لبنانية، وينطلق على ألسنة لبنانيين، ويُكتب ويُناقش بأقلام لبنانية. ثم لا ينقضي إلا ويسيل معه دم لبناني ويقضي معه لبنانيون ممهورة أخبار وفياتهم بتواقيع لبنانية وحبر لبناني، وغالباً على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”.
لا شكّ أن ما يجري في الإقليم وفي العالم عموماً يؤثر في أزمات الدول كلها وعليها، تماماً كما يؤثر في أزماتنا الوطنية وعليها، لكنه ليس منبتها. ليس منبعها وإن صبّت في النهاية في بحاره.
غياب ربّ الوطن..
أزماتنا المتوالدة والمتناسلة من بعضها البعض، أقرب ما تكون إلى أغنية وديع الصافي: “سارحة والربّ راعيها”، وهنا لا غير مكمن الأزمات، أزماتنا التي يرعاها رب الكون، لغياب رب الوطن أو ربّته، أي الدولة.
خصوبة التربة اللبنانية في إنبات الأزمات، لا تتعلق هذه المرة بمناخنا المعتدل، ولا ببحرنا الذي لا يبتعد سوى خطوات عن جبالنا. كما لا تتعلق بالمناخ: مناخ الطبيعة في لبنان. خصوبة التربة في إنبات الأزمات إنما مبعثها غياب الدولة، والمناخ المتعلّق بالطوائف فيه وعلاقاتها البينية، وامتداداتها الخارجية.
وعليه، في لبنان مناخان متضادان:
ـ الأول يجذب السيّاح صيفاً شتاءً، ويخرج من الثمار أشهاها ومن النبات أجوده، ومن الشجر أرسخه.
ـ أما الثاني، فلا ينبت غير الأزمات العصية على الحلول، ويطرد السيّاح، ويُدخل الحضارات والثقافات ببعضها البعض، فلا يولّد سوى العنف والقتل. الأول اجمع تسُد، أما الثاني ففرّق تسُد.
غياب الدولة في لبنان، بعيداً عن الاتهامات المتبادلة وصراعات المحاور الإقليمية والدولية، جعل التربة فيه خصبةً ومنتجةً أزماتٍ عالية الجودة: أزمات لا تقود إلا إلى حرب أهلية، أو إلى صلح عالمي.
حين يغيب الراعي يفلت القطيع، ويرعى كل رأس فيه في الجانب الذي يهوى. أكثر من ذلك، يصير كل “فرد” فيه رأساً له مرعاه الخاص ومراعيه المحلية والإقليمية والدولية حتى. رأس يتحكم في المواد الغذائية، ورأس بالمحروقات، وثالث بالدواء، وآخر بالكهرباء… إلخ.
غياب الدولة الذي أدى سياسياً إلى توزيع أدوارها على المقتدرين: واحد في يده قرار السلم والحرب، وآخر في يده قرار الالتحاق بالشرق وآخر بالغرب، أدى اقتصادياً إلى توزيع أدوارها أو وراثتها: واحد لا كهرباء من دونه، وثانٍ لا دواء بلا جهوده، وثالث هو وحده رب المحروقات. وأخير لا غذاء ولا مواد غذائية من دون رحمته. أما اجتماعياً، فخلق غياب الدولة أرباباً من دون الله، وهي أرباب محلية وإقليمية ودولية كذلك.
إقرأ أيضاً: أميركا الضعيفة: العراق يشبه لبنان الثمانينات
قماقم ومؤتمرون
الأنكى من ذلك، أن المنادين – وما أكثرهم ـ يخرجون من القماقم عند كل مفترق، ليطالبوا بعقد اجتماعي جديد، ودستور جديد، ونظام جديد، ومؤتمر وطني جديد في طائف ما. وكأن المشكلة هنا. أو كأن الدستور القائم حالياً أو اتفاق الطائف قد طُبّق، وأثبت تطبيقه عدم صلاحه وصلاحيته ليكون قانون القوانين في لبنان.
ما نحتاجه اليوم هو تطبيق الدستور، والمضي وفق القوانين وعلى هديها، فهل هذا متوافر؟ ما نحتاجه اليوم هو “مطبِّق” (وليس المقصود هنا غازي كنعان آخر) أو آلة تطبيق، أو راعٍ لتطبيق الدستور. “بالمشبرح” نحتاج إلى دولة ترعى تطبيق القوانين، وتحرس السلم الأهلي. دولة في يدها قرار السلم والحرب، وفي يدها ما هو أخطر من قرار السلم والحرب: قرار الاستيراد والتصدير، قرار العيش بكرامة وبأمن وأمان. فهل من مؤتمر -محلي أو إقليمي أو دولي- لهذا الهدف الجلل أيها المؤتمرون؟
إذا أضفنا إلى هذا الإنهيار المتمادي هيمنة دولية على القرار السياسي اللبناني، صار غياب الكتل الإجتماعية والسياسية والطالبية مأساة إضافية يسع المرء معها أن ينشد مع إيليا أبو ماضي لكن على الضد منه، لكن بغرض السؤال: نحن نحيا في وطن النجوم، أو وطن الأزمات؟