عام 2020 أصدرت “دار رياض الريس” للنشر كتاب “سردية الجرح الفلسطيني.. تحليل للسياسة الحيويّة الإسرائيلية”. هذا الكتاب هو خلاصة لقاءات وحوارات بين الدكتور غسان أبو ستة والباحث ميشال نوفل، سكبها الأخير بأسلوب رشيق على صفحاته ومؤخراً بعد “مقتلة” غزّة أعيدت طباعته وتوزيعه.
غسان أبو ستة هو طبيب فلسطيني متخصّص في التجميل والترميم، لمع نجمه في المستشفى المعمداني الشهير الذي قصفته إسرائيل وارتكبت فيه أوّل مجزرة “طبّية”.
هو صاحب تجربة طويلة في العمل التطوّعي في الميادين المشتعلة بالبارود والدماء والأطراف المتطايرة. يطرح عبر ثنايا الكتاب مجموعة مفاهيم وأفكار غير مطروقة، مثل “طبّ النزاعات”، الذي صار متخصّصاً به بحكم الدراسة والتجربة، و”الأنتروبولوجيا الطبّية”، و”السياسة الحيويّة”. ويستند إلى تجاربه ليبسط أمام القرّاء رؤية جديدة لجرح الحرب، تخرجه من عالم الأرقام الجامد، ليقدّم “الرواية السياسية” للحرب، ومعاناة صاحبه من ألمه مضاعفاً بعد انتهاء الاستثمار السياسي فيه. ولأهمّية ما يطرحه الكتاب، أعادت “دار رياض الريّس” نشره بعيد اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على أهل غزة.
في الآتي إعادة قراءة لهذا الكتاب. وفي الجزء الثاني يبيّن أبو ستّة كيف أنّ الجرح هو أداة سياسية، لهزيمة أصحاب الأرض، وكيف يمكن تحويله إلى سلاح لهزيمة المُستَعمِر.
جرح الحرب رأسمال سياسيّ
يعتبر أبو ستة أنّ أهمّ ما يميّز إصابات الحرب عن أيّ نوع آخر من الأمراض أنّها “تختزن كلّ سرديّتها التي يحملها الجريح طوال عمره. وهذه الرواية تشكّل قيمة سياسية فائضة تتغيّر باستمرار مع التحوّلات التي تصيب المشاريع السياسية للنخب الحاكمة أو تبدّلها”.
حسب أبو ستة، يشكّل النظام الصحّي إحدى أبرز أدوات شرعنة السلطة في الدولة العربية الحديثة التي قامت بعد مرحلة الاستعمار
في تجربته المهنية واجه العديد من الحالات التي تبرز التوتّر بين القيمة السياسية لإصابات الحرب التي تختارها النخبة في وقت معيّن، وقدرة المرضى على الحصول على الرعاية الطبّية من ناحية أخرى. وهذه النقطة تُطرح ربّما للمرّة الأولى على بساط البحث والنقاش منذ ما قبل النكبة الكبرى عام 1948.
يبيّن أبو ستة أنّه “إبّان وجود منظمة التحرير في بيروت، كان جرح المصاب يحظى بقيمة سياسية كافية لتوفير العناية الطبّية له، أو حتى إحضار فريق طبّي أجنبي للعمل عليه”. لكنّ هذا الحال تغيّر مع بدء مفاوضات أوسلو، ثمّ عاد الاهتمام بجروح المصابين إبّان الانتفاضة الأولى، ليخفت من جديد عقب إبرام اتفاق أوسلو، حيث جرى إهمال علاج جرحى الانتفاضة “لأنّ جرحهم فقد أهميّته السياسية”.
يقارن ذلك بالأوضاع الحاضرة، حيث عانى جرحى مسيرات العودة، والحروب على غزة، والتظاهرات المستمرّة، من فقدان العناية المستمرّة الضرورية، وحصولهم فقط على عناية صحّية أوّلية. وفي ذلك انتقاد مزدوج للسلطة الفلسطينية كما لحركة حماس التي لم تولِ الجرحى والقطاع الصحّي برمّته الاهتمام اللازم. ويشير إلى نقطة مهمّة في مجال ترميم إصابات الحروب، وهي أنّ “الحاجة إلى العلاج تزداد أكثر عندما يدخل المريض في مرحلة الشيخوخة”.
المشاريع السياسيّة… في شكلها البيولوجيّ
تتعامل النخب المسيطرة مع الجروح الناتجة عن الحرب كأنّها تجسيد بيولوجي للمشاريع السياسية، وهي لن تكفّ عن البحث عن الشرعية الكامنة في رواية بعض الجروح، أو عن محاولة دفنها. ويضرب مثالاً على ذلك التغيّر الهائل في القيمة السياسية لجرحى الحرب الإيرانية – العراقية لدى النخب السياسية في البلدين، حيث كان يُنظر اليهم في بلاد الرافدين على أنّهم أبطال قوميون، وسخّرت الحكومة كلّ مواردها المتاحة لعلاجهم. أمّا بعد الغزو الأميركي، فقد صار هؤلاء الجرحى يمثّلون إحراجاً للدولة العراقية المتحالفة مع إيران.
في تحليل العلاقة بين السلطة والنخب والاحتلال، يقدّم أبو ستة مقاربة للحالة السياسية الفلسطينية في تحوّلاتها، تكشف ارتباطها بالتحوّلات التي حصلت في عدّة بلدان عربية في الخمسينيات والستّينيات: “مع صعود البورجوازية الصغيرة القادمة من الريف، التي وجدت في المجابهة المسلّحة مع إسرائيل فرصة للحراك الاجتماعي الذي يحسّن موقعها السياسي”.
تداعت المنظومة الصحّية في عدد من البلدان العربية مع انهيار مؤسّسات الدولة
“وإذا كان اتفاق أوسلو أوجد طبقة مرتبطة عضوياً بالاحتلال الإسرائيلي تسعى دائماً إلى الحفاظ على مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية عبر التفاهم المستدام مع إسرائيل، فإنّ صعود طبقة ثانية إلى السلطة سيكون عبر المسار نفسه، حيث تشتبك مع إسرائيل لتحقّق حراكاً سياسياً واجتماعياً، وفور بلوغها الموقع الذي تريد، فإنّها ستسعى للتوصّل إلى تفاهم مع إسرائيل”. وهذا ما ينطبق على حماس بالدرجة الأولى، وعلى باقي الفصائل المعارضة لفتح كذلك.
يرى أبو ستة أنّ من أبرز السمات الجوهرية لمسيرة النضال الفلسطيني “عدم القدرة على مراكمة التجربة”، حيث تقطع كلّ مرحلة مع التي قبلها وتنطلق من الصفر بما يؤدّي إلى “انقطاع الخطّ الناظم لها عند كلّ مرحلة جديدة والبدء من الصفر”، ويعزو ذلك إلى “هاجس النخب الفلسطينية أن تكون هي السلطة الحاكمة”. ويروي أنّ الأيديولوجية في النظام الفلسطيني توظَّف لنزع الشرعية في الصراع بين النخب السياسية الصاعدة والهابطة.
نزعت الشرعية عن نخبة أحمد الشقيري، مؤسّس “منظمة التحرير الفلسطينية”، بعد حرب عام 1967، تمهيداً لبروز ياسر عرفات ومحيطه، استوجب رفع “الأيديولوجية الوطنية الفلسطينية” في وجه “القومية العربية” وردّاً واعتراضاً على هزيمتها، مثلما ترفع حماس شعار “الإسلام” لمواجهة حركة فتح: “إذا كنت تريد أن تبحث عن أيديولوجية جديدة كلّما وجدت نفسك في مأزق، فإنّما هذا يعني أنّ الهويّة الأيديولوجيّة لم تتجذّر بعد في المجتمع الفلسطيني.. في الوقت الذي نرى فيه أنّ باستطاعة الإسرائيلي أن يتحوّل من الاشتراكية إلى التوراتية دون أن يمسّ بأسس المشروع الصهيوني”. ويبدي بعض التحفّظات على أداء حركة حماس السياسي: “المشكلة هي في العقلية الإخوانية التي لا ترى جمهوراً خارج جمهورها، والتي تضع حدّاً لفاعليّتها الداخلية، وأمّا باقي التنظيمات فقد جاء جيل ارتقى فيه القيادي لأنّ الأرفع منه قد مات”.
الصحّة كأداة لشرعنة السلطة
حسب أبو ستة، يشكّل النظام الصحّي إحدى أبرز أدوات شرعنة السلطة في الدولة العربية الحديثة التي قامت بعد مرحلة الاستعمار: “عندما ندرس أوضاع النظام الصحّي في العراق وسورية، نجد أنّ النظام كان يتعمّد استقطاب طبقة من الريف إلى التعليم الطبّي، في إطار السعي إلى إنشاء طبقة متوسطة بديلة من الطبقة المتوسّطة المدنية. ذلك أنّ الأنظمة العربية كانت تشعر بوجود أجواء معادية لها في المدن، لذا كانوا يحاذرون التعامل مع الفئات المتوسّطة فيها”.
ينطبق صنع بيئة موالية للسلطة الحاكمة أيضاً على منظمة التحرير الفلسطينية: “وظيفة الطبابة كانت تقوم على ربط المجتمع والجماهير بالمشروع الوطني ومؤسّساته، وتوفير أدوات للتعبئة لا توفّرها السياسة البحتة.. الصحّة في الثقافة الفلسطينية كانت تحتلّ مكانة لا نجد لها مثيلاً في إفريقيا أو أميركا اللاتينية”.
كما يتوقّف عند علاقة حركة حماس بالقطاع الصحّي: “جاءت إلى السلطة وسيطرت على وزارة الصحة، وكانت لديها الرؤية الصحّية الموجودة لدى الأنظمة العربية. بمعنى أنّ سلطة حماس هي المختصّة بصحّة المجتمع، وأيّ محاولة للتشكيك في قدراتها أو إيجاد طرق أخرى لتوفير الخدمات الطبّية، تعدّها تهديداً لشرعيّتها في الحكم”.
لكنّه يشير إلى حصول تغيّر مهّد لظهور ثقافة مختلفة في السنوات الأخيرة، في اعتراف ضمني من حماس بعدم قدرتها على إدارة هذه الأعداد الهائلة من الإصابات. ويمضي يقول: “لقد فشلت حماس في منع إسرائيل من تحويل نضالنا في غزة من نضال سياسي إلى نضال لتحسين شروط أزمة إنسانية، حيث نجحت في تحويل المطالب الفلسطينية في شأن المطار والميناء إلى 8 ساعات كهرباء و15 ميلاً بحريّاً لصيد الأسماك وأدوية أكثر أو أقلّ”.
إقرأ أيضاً: الجرحُ ميدانُ حربٍ وسياسة (1/2): غسان أبو ستّة يروي تجربته
الجرح كوسيلة لهزيمة المقاومة
تداعت المنظومة الصحّية في عدد من البلدان العربية مع انهيار مؤسّسات الدولة:
– فاستخدم العراق أرصدته الماليّة لتوفير الطبابة والعلاج للمرضى خارج البلاد من أجل حماية شرعية نظامه.
– أمّا سورية التي لا تمتلك القدرات الماليّة نفسها فتعاملت بقسوة مفرطة مع أيّ محاولة لتوفير الطبابة والعناية الصحّية: “وهذا ما يفسّر ظاهرة الاستهداف العسكري للمراكز الصحّية في مناطق المعارضة بشكل متكرّر. لأنّ الدولة متمسّكة بحصرية الخدمات الطبّية”. ويُبرز أهمّية تطوير الأبحاث في حقل “الأنتروبولوجيا الطبّية” العربية، وكيفية الوصول إلى فهم أفضل للتطبيقات الإسرائيلية في مجال السياسة الحيوية والتحكّم بصحّة الفلسطينيين وحياتهم.
في خلاصة تجربته يقول أبو ستة إنّ الهدف الأساسي في كلّ الحروب هو جسد الجريح وليس قطعة الأرض: “فالجرح، وعلى امتداد حياة المصاب، هو تعبير بيولوجي عن الحرب وخزّان سرديّتها. وفي كلّ جرح عالجته، كنت أرى الحرب تتجسّد أمامي، ومن خلاله تمكّنت من قراءة الصراعات وفهم المشاريع السياسية المتعلّقة بها”.
“إنّ الجرح الذي يراد منه أن يكون تجسيداً لسطوة المستعمِر على جسد المستعمَر، يستردّه المقهورون بإعطائه قيمة اجتماعية وسياسية إيجابية تحوّله من مؤشّر إلى عجزه إلى مؤشّر إلى ندّيّته للمستعمِر. وفي اللحظة التاريخية التي تفقد الشعوب المستعمَرة القدرة على إنتاج القيمة الإيجابية للجرح الحربي، فإنّما تكون قد خسرت معركة الإرادة مع المستعمِر، ويكون وعيها الجمعي قد هزمه عنف المستعمِر”.