“مولوي” البلوش يقلق خامنئي..

مدة القراءة 7 د


“أهل السنّة يطالبون بالعدالة والمساواة منذ 44 عاماً، لكنّ هذه المساواة لم تتحقّق. خلال عهد الشاه، كان أهل السنّة يشغلون مناصب قيادية مختلفة. لكنّ نظام الجمهورية الإسلامية لم يقُم بتعيين وزير واحد من أهل السنّة، والسلطات لا تراعي مبدأ الجدارة في تعيين الأشخاص”.
هذا ما قاله في خطبة الجمعة في مسجد “مكي” بمدينة “زاهدان”، عاصمة محافظة سيستان وبلوشستان، إمام أهل السنّة في إيران مولوي عبد الحميد، بتاريخ 9 كانون الثاني 2023.
عقب قيام إيران بقصف إقليم بلوشستان الباكستاني بالصواريخ الباليستية والمسيّرات قبل أيام، وضعت ذلك ضمن إطار الردّ على الهجمات التي طالتها، وقيام إسرائيل باغتيال قادة حرسها الثوري. ما كان مستغرباً هو الربط في البيانات الإيرانية بين الموساد وبين تنظيم انفصالي سنّي الهويّة ينتمي إلى أقلّية البلوش، وهو “جيش العدل”. الردّ الباكستاني بالمثل جذَب الاهتمام الإعلامي إلى التوتّر بين الدولتين الجارتين، على حساب المعاناة المزمنة للبلوش، وسائر الأقلّيات في إيران.

أقلّيّة تفرّقت بين الدول
يتشابه حال البلوش مع الأكراد، إنّما مع اهتمام سياسي وإعلامي أقلّ. فهم موزّعون على 3 دول: باكستان، إيران، وأفغانستان، ويسعون إلى إحياء دولة البلوش التاريخية “خانية كلات” التي انتهت بخضوعها للاستعمار البريطاني. يعتبرون أنّ إيران احتلّت جزءاً من وطنهم عام 1928. ثمّ باكستان الجزء الأكبر، بعدما التهمت دولتهم الوليدة التي أعلنوا عنها عام 1947 عقب الانسحاب البريطاني من الهند، واستمرّت 8 أشهر فقط. يقدّر إجمالي عدد البلوش بنحو 10 ملايين نسمة، بينهم نحو 2.8 مليون في محافظة سيستان وبلوشستان، أكبر المحافظات الإيرانية وأكثرها بؤساً، وأقلّيات محدودة موزّعة على أفغانستان وسلطنة عمان والإمارات العربية المتّحدة.

حدثت نقطة التحوّل يوم الجمعة 30 أيلول 2022، بعد أسبوعين من انطلاق موجة الغضب الشعبي على خلفيّة مقتل الشابّة مهسا أميني

ظهر جيش العدل عام 2012 كـ”حركة مقاومة تعتمد الكفاح المسلّح لاستعادة حقوق البلوش وتحقيق المساواة في حقوق أهل السنّة مقارنة بالشيعة داخل إيران”. يركّز في عملياته على استهداف مراكز الشرطة والحرس الثوري. يتزعّمه عبد الرحيم ملّا زاده، الذي تلقّب بـ”صلاح الدين فاروقي”، ليجمع بين اثنين من أبرز الشخصيات الإسلامية في التاريخ، ويعتزّ السنّة بهما كثيراً، صلاح الدين الأيوبي، وعمر بن الخطاب الذي لقّبه النبيّ بـ”الفاروق”. يقدّر عدد أفراده بنحو ألفين. وتلقّبه أجهزة الدعاية الإيرانية بـ”جيش الظلام”، وتعتبره تنظيماً تكفيرياً مرتبطاً بالقاعدة، بينما لا يوجد أيّ ارتباط فكري أو تنظيمي بينهما.
في 15 كانون الأول الماضي، قتل جيش العدل 11 ضابط شرطة إيرانياً في هجوم تبنّاه على مركزهم في مدينة “راسك”. كما قتل ضابط شرطة آخر في هجوم ثانٍ في 10 كانون الثاني في منطقة قريبة من الموقع الأوّل. وهذا ما قد يجده كثر مبرّراً لاستهداف إيران لهذه الجماعة وملاحقة قياداتها وأفرادها أينما وجدوا، انطلاقاً من تهديدهم الأمن القومي للبلاد. لكنّ ذلك ليس سوى جزء يسير من الحكاية.

التهميش والحرمان
يقول عدد من المحلّلين المتابعين للقضية إنّ “جيش العدل” يتمتّع بحاضنة شعبية واسعة في أوساط البلوش، تشكّل له درعاً واقية من ملاحقة السلطات الإيرانية. وهذا ما أتاح له الاستمرار لما يزيد على 10 سنوات على الرغم من محدودية عدد أفراده. وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت الأصوات البلوشية التي تطالب بالانفصال عن إيران، أو على الأقلّ الحصول على حكم ذاتي، وذلك بسبب المعاناة من التمييز العرقي والمذهبي والتهميش الاجتماعي. تعدّ بلوشستان أفقر محافظة إيرانية على الإطلاق، وتقدّر نسبة الفقر والبطالة فيها بنحو 50%، حسب تقرير “مسح الفقر” الصادر عن وزارة العمل الإيرانية عام 2022.
حينما نفاه الشاه إليها في آخر سني حكمه، وقضى فيها سنةً عاين خلالها مدى حرمانها، وعد علي خامنئي أهل بلوشستان بأن تصل إليهم يد الإنماء في عهد الجمهورية الإسلامية، وهو ما لم يحصل أبداً. فالنظام الذي أقامه الملالي ارتكز على قاعدتين: الشيعية الاثني عشريّة، والقومية الفارسية، وعمل على تذويب الخصوصيات الهويّاتيّة، ودمج الأقلّيات بالثقافة الفارسية. لذا حُرم أهل بلوشستان من المناصب القيادية والوظائف حتى داخل المحافظة نفسها.
إمعاناً في إلغاء هويّتهم، تمنع السلطات الإيرانية اللغة والموسيقى البلوشيّتين، وتحارب عاداتهم وتقاليدهم. كذلك قامت بهدم مدارس دينية، مثل مدرسة الإمام أبي حنيفة، ومساجد، واغتيال عدد من علمائهم البارزين، مثل الدكتور أحمد ميرين سياد، وهو أوّل إيراني يحصل على الدكتوراه من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والشيخ علي دهوراي. كما أعدمت الشيخين عبد القدوس ملازهي ومحمد يوسف سهرابي عام 2008 بتهمة الإرهاب، فضلاً عن الاعتقال التعسّفي والإخفاء القسريّ لكثير من أبناء المحافظة.

يعتقد البلوش بأنّ النظام يتعمّد التضييق عليهم لدفعهم إلى مغادرة أرضهم بغية تغيير التركيبة السكّانية للمحافظة

يعتقد البلوش بأنّ النظام يتعمّد التضييق عليهم لدفعهم إلى مغادرة أرضهم بغية تغيير التركيبة السكّانية للمحافظة. وفي تصريح يكشف عن مدى معاناة البلوش من الفقر، قال النائب عن محافظة بلوشستان في البرلمان الإيراني محمد سركزي في حزيران 2023 إنّ معظم أهالي المحافظة “لا يجدون طعاماً سوى الخبز ومعجون الطماطم”. وحسب تقرير لموقع “إيران إنترناشيونال”، فإنّ بلوشستان هي المحافظة التي “شهدت أكبر التظاهرات وأكثرها استمراراً خلال الاحتجاجات التي عمّت البلاد عام 2022، وشهدت أكبر عدد من القتلى”.

رمز المعارضة
يعدّ مولوي عبد الحميد الزعيم الروحي للسنّة في إيران. ومولوي رتبة دينية، فيما اسمه الأصلي عبد الحميد إسماعيل زهي . ورث الزعامة عن والد زوجته مولانا عبد العزيز. والأخير أقصاه الملالي من “مجلس خبراء الدستور”، الذي صاغ دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية. عبد الحميد هو خطيب مسجد “مكي” بمدينة زاهدان، ويرأس جامعة “دار العلوم” أكبر مركز علمي وثقافي للسنّة.
يبيّن تقرير لموقع “ميديل إيست أي” البريطاني في كانون الأول 2022 أنّ عبد الحميد دعم التيار الإصلاحي، وحضّ السنّة على الإقبال على صناديق الاقتراع وانتخاب الإصلاحيين منذ ترشّح الرئيس الأسبق محمد خاتمي، أملاً في تحصيل قسط من العدالة الاجتماعية التي لطالما صدح صوته بالمطالبة بها في خطبه. انقلب بشكل مفاجئ ودعم ترشيح الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي. لكنّه تحوّل إلى واحد من أبرز رموز المعارضة الإيرانية.
حدثت نقطة التحوّل يوم الجمعة 30 أيلول 2022، بعد أسبوعين من انطلاق موجة الغضب الشعبي على خلفيّة مقتل الشابّة مهسا أميني. يشير التقرير نفسه إلى أنّ موضوع الخطبة حينها كان “تعرّض فتاة بلوشية للاغتصاب من عقيد في الشرطة. بعد الصلاة خرج المصلّون يصبّون جامّ غضبهم على السلطات التي تجاهلت محاسبة الضابط”. وكعادة النظام الإيراني في البطش، “سارعت قوات الشرطة والحرس الثوري إلى استخدام القوة الفتّاكة، وهو ما أدّى إلى مقتل 80 شخصاً بينهم أطفال”، واشتهر ذلك اليوم بـ”الجمعة السوداء”. ومذّاك، صار يوم الجمعة موعداً ثابتاً لتظاهرات شعبية حاشدة في زاهدان ضدّ سياسات التمييز والإفقار، حيث لعبت الأقليّة السنّية دوراً بارزاً في منح الحركة الاحتجاجية في الداخل الإيراني زخماً كبيراً، وصارت زاهدان “أحد أبرز مراكز الاحتجاجات بإيران”، حسب توصيف “مركز حقوق الإنسان في إيران” ومقرّه في دولة النرويج.

إقرأ أيضاً: سلوك إيرانيّ عصيّ على التفسير..!

بعدما كان عبد الحميد يقوم بالترويج للموقف الرسمي الحكومي عبر المنبر، صار يوجّه انتقادات لاذعة للنظام والمرشد والحكومة في خطبه، التي حصدت نسباً هائلة من المشاهدات عبر صفحاته على مواقع التواصل، ويتحدّث فيها عن حقوق الأقلّيات المسلوبة، وعن التعذيب في السجون، فتحوّل إلى أحد أبرز رموز المعارضة. وكشفت وثائق سرّبتها مجموعة قراصنة (هاكرز) أنّ المرشد علي خامنئي منع الحرس الثوري من اعتقال مولوي عبد الحميد “وأمر بفضحه” عبر حملة تركّز على “قيامه بتهنئة طالبان”، وقضية “حقوق النساء في بلوشستان”. مُنيت الحملة بفشل ذريع، لكنّ عين النظام لا تزال ترقبه، ولا سيما أنّ تظاهرات الجمعة في زاهدان لا تزال مستمرّة حتى يومنا هذا، على الرغم من خفوت حركة الاحتجاجات مع أفول عام 2022 بفعل “القمع الوحشي للسلطة”، حسب تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش”.

مواضيع ذات صلة

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…