يحكى عن خلافات بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو بشأن إدارة الحرب في غزّة. يحكى أيضاً عن فقدان الكيمياء الشخصية بين بايدن ونتانياهو منذ أن كان الأول يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي في عهد باراك أوباما. جرى في ذلك العهد أن ساءت علاقات نتانياهو بالرئيس الأميركي إلى درجة أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي كان يحاضر في الكونغرس ويقف له المشرّعون مصفّقين من دون المرور بالبيت الأبيض.
يحكى أيضاً أنّ موفدي واشنطن، ومنهم وزيرا الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ومدير وكالة المخابرات المركزية CIA وغيرهم، اصطدموا بعناد إسرائيلي، لا سيما من قبل نتانياهو المستقوي بوزراء التطرّف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لعدم الانصياع لما قيل إنّها ضغوط أميركية لتخفيف وقع الحرب على الغزّيّين. حتى إنّ أنباء تحدّثت عن “مكالمة صعبة” أجراها بايدن بنتانياهو أخيراً بشأن عرقلة إسرائيل تحويلات ماليّة تعود للسلطة الفلسطينية.
يُفترض أن يفضح ما يُحكى نفوراً مهمّاً بين واشنطن وتل أبيب، غير أنّه لا أحد في هذه الإدارة يثير، ولو تلميحاً، احتمال اللجوء إلى العقوبات، وفي مقدّمها وقف أو حتى عرقلة تزويد إسرائيل بالذخيرة والأسلحة، وهي التي تُستخدم في حرب إبادة (وفق الشكوى التي قدّمتها جنوب إفريقيا لمحكمة العدل الدولية) وتُنزل بمدنيّي القطاع “نكبة” تزعم الروايات الأميركية أنّ واشنطن تجهد لوقفها.
يحكى عن خلافات بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو بشأن إدارة الحرب في غزّة
“المُكالمة الصعبة”… وتجاوز الكونغرس
بعد ساعات فقط على حكاية “المكالمة الصعبة” قرّرت الإدارة الأميركية تجاوز الكونغرس، وفق ما تتيحه القوانين، وللمرّة الثانية خلال شهر، من أجل إقرار إرسال تجهيزات عسكرية لإسرائيل بقيمة 147.5 مليون دولار. كان فقط على وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن يبلغ الكونغرس بأنّ المسألة “طارئة”، ليعود المتحدّث باسم الوزارة ليوضح أنّ الوزير قرّر في عجالة بناء على “الحاجة الطارئة للدفاع الإسرائيلي”.
يُفترض نظرياً، ووفق الأبجديّات الكلاسيكية التي نردّدها، أنّ للّوبي اليهودي المناصر لإسرائيل، لا سيما “إيباك”، نفوذاً وتأثيراً أساسيَّين في تقرير نتائج أية انتخابات في الولايات المتحدة. ووفق هذه المسلّمة، فإنّ لإدارة بايدن، جدلاً، مصلحة في إرضاء “اللوبي” باستمرار دعم إسرائيل من دون تردّد وعدم القيام بأيّ سياسات أو إجراءات من شأنها أن تعارض مصالح إسرائيل. غير أنّ نظرية ذلك “النفوذ” تسري، بالمناسبة، أيضاً على الحزب الجمهوري بشأن مصالحه الانتخابية في رئاسيات 2024، فيما هذا الحزب، بالذات، هو الذي يناكف الإدارة الديمقراطية داخل الكونغرس ويعرقل مساعي بايدن لتمرير قوانين التمويل الخاصة بإسرائيل (وأوكرانيا) بسبب مناكفات بيتية بين الحزبين.
إسرائيل “أداة” لدى أميركا
تسكن علاقة الولايات المتحدة وإسرائيل معادلة معقّدة مركّبة متعدّدة الطبقات من التعجّل تبسيطها. وفق هذا التعقيد يجوز المجادلة بشأن ما إذا كانت واشنطن “تُدار” من قبل لوبي المصالح الإسرائيلية على النحو الذي لم يتِحِ ولا يتيح تعارضاً بين الإدارات وحكومات تل أبيب إلى درجة نصب جسور جوّية عسكرية لدعم إسرائيل عند الضرورة. ويجوز أيضاً التسليم بأنّ إسرائيل هي، أيضاً، أداة استراتيجية من أدوات السياسة الخارجية لواشنطن وأمن الولايات المتحدة الاستراتيجي، وبالتالي فإنّ حمايتها والدفاع عنها هما مصلحة أميركية بامتياز.
لن نشغل البال كثيراً في الاهتداء لحلّ نهائي دقيق لتلك الأحجية. لكنّ الأرجح أنّ الموقف الأميركي (منذ أن ورثت الولايات المتحدة زعامة العالم الغربي من دولتَي الاستعمار الكبيرتين، فرنسا وبريطانيا، وأجبرتهما بموقف من الرئيس دوايت أيزنهاور على وقف حرب 1956 ضدّ مصر) يقوم في مسألة الدعم “الغريزيّ” لإسرائيل على قواعد أيديولوجيّة تتعلّق بالبناء الثقافي المجتمعي السياسي للولايات المتحدة من جهة، وعلى قواعد المصلحة الاستراتيجية التي تجعل من إسرائيل أصلاً لا فرعاً في السياسة الخارجية الأميركية.
الأدقّ في تقويم الموقف الأميركي هو أنّ واشنطن كانت تتمنّى، كما حال إسرائيل تماماً، حسم حرب غزة بسرعة والقضاء على حماس و”قسَّامها” وأنفاقها وفرض الأمر الواقع الإسرائيلي
لا يمكن لعاقل إلّا أن يستنتج أنّ الولايات المتحدة تخوض الحرب في غزة. صحيح أنّ تقارير تحدّثت عن وجود قوات أميركية من البنتاغون لتقديم شكل من أشكال المعونة الاستشارية لإسرائيل فقط، لكنّ واشنطن تخوض الحرب بدعم مطلق لتوفير القوّة لمناعة إسرائيل كما فعلت تماماً في حرب عام 1973 واضطرّت الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى قبول وقف إطلاق النار لأنّه “لا يريد محاربة الولايات المتحدة”، وفق قوله. لم تكتفِ الولايات المتحدة في حرب غزّة بتوفير السلاح والذخائر بلا شروط (كان طالب بها السناتور بيرني ساندرز زعيم الجناح اليساري لحزب بايدن الديمقراطي)، بل إنّها حرّكت قطعها البحرية الاستراتيجية ودفعت بتعزيزات عسكرية نحو المنطقة لتوفير بيئة عسكرية حاضنة لإسرائيل.
إسرائيل “جزء من خريطة” أميركا
وجب وضع الأمر أيضاً في إطار عالمي أوسع. تاريخياً إسرائيل هي جزء من التفوّق الأميركي في العالم وإحدى أهمّ قواعده الاستراتيجية في العالم. وإذا ما طوّرت الصين وروسيا والهند ودول أخرى في العقود الأخيرة علاقاتها مع إسرائيل فذلك تمّ بناء على هذه الحقيقة وبسببها. وإسرائيل في الحسابات الأميركية جزء أصيل من خرائط الولايات المتحدة في تحوّلاتها الجيوستراتيجية ضدّ الصين منذ عهد أوباما. وإسرائيل تندرج طبعاً ضمن موازين القوى الأميركية في الصراع الحالي مع روسيا وتدير إسرائيل علاقاتها بتوازن مع موسكو وبكين.
تخوض أميركا الحرب في غزّة وكأنّها حربها، لأنّ تفوّق إسرائيل يوفّر للولايات المتحدة تفوّقاً في الشرق الأوسط أيضاً وهيمنة لقواها في صدّ محاولات التقدّم المثيرة للقلق للصين أوّلاً وروسيا ثانياً في هذه المنطقة. وكما تضرب الولايات المتحدة أذرع إيران في العراق مثلاً، فإنّ إسرائيل تضرب تلك الأذرع في سوريا مثلاً آخر على نحو يكشف توزيع أدوار في تحجيم التوسّع الإيراني الذي تنفذ منه أخطار أكثر ضراوة من الصين وروسيا.
نتانياهو لن يخضع للضغوط
قبل أيام خرج الدبلوماسي الأميركي دنيس روس بنظرية تفسّر الجانب النسبي لقدرة الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل. يرى الرجل، الذي لطالما لعب في التسعينيات أدواراً في المفاوضات داخل الأروقة الخلفيّة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أنّ “التهديد بحجب المساعدات الأميركية لن يؤدّي إلا إلى جعل الإسرائيليين يواصلون ما يفعلونه بمفردهم”، على حدّ زعمه، وهو الذي طالما اتُّهم بمحاباة إسرائيل. صحيح أنّ إسرائيل ما زالت تخشى القيام بمغامرات كبرى من دون دعم أميركي غربي، لكنّ تيّاراً سياسياً فكرياً في إسرائيل، وحتى في الولايات المتحدة، يرى أنّ واشنطن ستضطرّ، وفق نظرية الأمن الأميركي وعقائده، إلى أن تتدخّل لدعم إسرائيل حتى لو ذهبت لوحدها.
إقرأ أيضاً: هل هو عام فلسطين في العالم؟
الأدقّ في تقويم الموقف الأميركي هو أنّ واشنطن كانت تتمنّى، كما حال إسرائيل تماماً، حسم حرب غزة بسرعة والقضاء على حماس و”قسَّامها” وأنفاقها وفرض الأمر الواقع الإسرائيلي. أما وأنّ الأمر أكثر صعوبة ممّا هو مخطَّط، لا سيما بسبب الفضيحة الأخلاقية الدولية التي تفرضها المجازر في غزّة، فإنّ الإدارة في واشنطن تواكب الجهد الإسرائيلي بحيث يخرج جميع الموفدين الأميركيين من اجتماعاتهم مع نظرائهم الإسرائيليين “متفهّمين” للموقف الإسرائيلي “موافقين” على إطالة مراحل الحرب “مكتفين” بوعود بأن توفّر المعارك “الموت الرحيم” للمدنيين. وتذهب إدارة واشنطن بموازاة ذلك إلى بيع أن تبيعنا في المنطقة، بعيون الوزير بلينكن الذابلة، اكتشاف حلّ الدولتين، فيما يجهد بايدن عبر “المكالمات الصعبة” للتوسّط لدى نتانياهو للإفراج لسلطة رام الله عن أموالها بحيث تصبح واشنطن الرقم الضروري الصعب لكلّ الأطراف وطبعاً للسلم في المنطقة والعالم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@