الجرحُ ميدانُ حربٍ وسياسة (1/2): غسان أبو ستّة يروي تجربته

مدة القراءة 9 د


عام 2020 أصدرت “دار رياض الريس” للنشر كتاب “سرديّة الجرح الفلسطيني.. تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية” وأعيدت طباعته وتوزيعه بعد حرب غزّة. هذا الكتاب هو خلاصة لقاءات وحوارات بين الدكتور غسان أبو ستة والباحث ميشال نوفل، سكبها الأخير بأسلوب رشيق على صفحاته.

غسان أبو ستة هو طبيب فلسطيني متخصّص في التجميل والترميم، لمع نجمه في المستشفى المعمداني الشهير الذي قصفته إسرائيل وارتكبت فيه أوّل مجزرة “طبّية”.

هو صاحب تجربة طويلة في العمل التطوّعي في الميادين المشتعلة بالبارود والدماء والأطراف المتطايرة. يطرح عبر ثنايا الكتاب مجموعة مفاهيم وأفكار غير مطروقة، مثل “طبّ النزاعات”، الذي صار متخصّصاً به بحكم الدراسة والتجربة، و”الأنتروبولوجيا الطبّية”، و”السياسة الحيويّة”. ويستند إلى تجاربه ليبسط أمام القرّاء رؤية جديدة لجرح الحرب، تخرجه من عالم الأرقام الجامد، ليقدّم “الرواية السياسية” للحرب، ومعاناة صاحبه من ألمه مضاعفاً بعد انتهاء الاستثمار السياسي فيه. ولأهميّة ما يطرحه الكتاب.

في الآتي إعادة قراءة لهذا الكتاب. وفي الجزء الأوّل شرح لنشأة أبو ستّة ونظريّاته الطبّية – السياسية.

عام 2020 أصدرت “دار رياض الريس” للنشر كتاب “سرديّة الجرح الفلسطيني.. تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية”. هذا الكتاب هو خلاصة لقاءات وحوارات بين الدكتور غسان أبو ستة والباحث ميشال نوفل، سكبها الأخير بأسلوب رشيق على صفحاته

الإلغاء السياسيّ

يبدأ الباحث ميشال نوفل الكتاب بالتعريف بنظرية السياسة الحيوية (Biopolitics)، التي يعدّ الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أوّل من أطلقها. اعتبر فوكو أنّ العزل الصحّي يمثّل بدايات السياسة الحيوية، حيث بدأت السلطات تأخذ بالاعتبار تدريجياً حياة السكان عبر مقاييس معيّنة، مثل معدّل الولادات والوفيات وهرم الأعمار. وقاده البحث المتواصل إلى أنّ ممارسة السلطة لا تعني فقط إدارة الأراضي، بل كذلك حياة الناس، ومنها اشتقّ مفهوم السلطة الحيوية (Biopower).

بمراجعة سريعة لتطبيقات السياسة الحيوية في المستعمرات نجد أنّها أفضت أحياناً إلى تفريغ الأراضي المطلوب السيطرة عليها من السكان الأصليين أو استيطانها، سواء عبر الإبادة الجسدية أو عبر الهيمنة التي تحقّقها كثافة الإمداد البشري، أو الجمع بين التدبيرين معاً.

يبيّن نوفل أنّ الإلغاء السياسي للجسم الفلسطيني واقتلاعه من أرضه يمثّلان جوهر الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي: “لم تكتفِ إسرائيل بتحويل عرب 48 الى كتلة هامشية، بل عملت على تفريغ الأراضي وتهجير الفلسطينيين بشكل دائم”. وبعد اتفاق أوسلو ارتكزت السياسة الحيوية الإسرائيلية على تقطيع مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني إلى معازل إمعاناً في الإلغاء السياسي، مع استمرار الإبادة الجسدية في غزة التي مثّلت على الدوام صداعاً إسرائيلياً، فابتدع رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق، المعروف بهمجيّته ودمويّته، آرييل شارون، الطريقة المثلى بنظر النخب الإسرائيلية، من خلال الانسحاب من القطاع في ما عرف بـ”فكّ الارتباط”، بقصد التخلّص من أيّ مسؤولية تجاهه (سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية..) وتحويله إلى كانتون معزول.

البدايات.. من غزّة

ينتمي الدكتور غسان أبو ستة إلى عائلة غزّيّة عريقة. ولد في الكويت التي هاجر إليها والده أوائل الخمسينيات. عمّه عبد الله كان من قيادات العمل الفدائي، فيما عمّه إبراهيم كان رئيس بلدية خان يونس ومن الأعضاء المؤسّسين في “منظمة التحرير الفلسطينية”.

راكم تجربة هائلة أدخلته عالم الأنتروبولوجيا الطبّية، سواء عبر الانتفاضات في فلسطين المحتلّة، أو عبر الحروب في قطاع غزة والعراق وسورية. تبلور وعيه السياسي على وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام 1982، ورسومات المبدع ناجي العلي “الذي كان دائماً يربط القضية الفلسطينية بوصفها قضية الإنسان الفلسطيني المقهور”.

انتقل إلى بريطانيا لمتابعة تحصيله العلمي، وتخرّج عام 1994 من جامعة “غلاسكو” طبيباً متخصّصاً في الجراحة التجميلية والترميم. تجربته الأولى في العمل التطوّعي الميداني كانت في غزة صيف عام 1990، حيث أسهم في علاج جرحى الانتفاضة (1987-1993) في المستشفى المعمداني، وحينما قصفته إسرائيل بعد 33 عاماً في حربها الحالية، كان قبل ساعات موجوداً فيه يتابع عمله التطوّعي، وظهر في المؤتمر الصحافي الذي عقدته إدارة المستشفى بعد المجزرة.

استخلص من هذه التجربة أنّ “العمل الطبّي هو أداة ناجعة لتنظيم المجتمع وخلق نظم التعاضد وثقافته”. وكانت تجربته الأولى في الأنتروبولوجيا الطبّية مع فريق من جامعة “هارفرد” كان يجري دراسة ميدانية عن الأثر الصحّي لـ”حرب الخليج الثانية” على الشعب العراقي. كما كانت له تجربة ميدانية في جنوب لبنان عقب “حرب المخيّمات”، وأدرك من خلال التعاطي المباشر مع الأهالي “كم كانت آثارها مدمّرة للمجتمع الفلسطيني في لبنان، إذ إنّها كسرت روحه، وحوّلته من مجتمع لاجئ مسيّس إلى كتلة اقتصادية مهمّشة”.

أنشأ مع الفريق الذي شاركه الدراسة الميدانية في العراق “مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية” في نيويورك، لدراسة تأثيرات عملية أوسلو في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني.

بمراجعة سريعة لتطبيقات السياسة الحيوية في المستعمرات نجد أنّها أفضت أحياناً إلى تفريغ الأراضي المطلوب السيطرة عليها من السكان الأصليين أو استيطانها، سواء عبر الإبادة الجسدية أو عبر الهيمنة التي تحقّقها كثافة الإمداد البشري، أو الجمع بين التدبيرين معاً

من غزّة.. إلى بيروت

يقول أبو ستّة: “حينما وقعت حرب 2008 (على غزة)، كنت حاسماً في قراري بأن انتقل إلى غزة مهما كلّف الأمر، وفوجئت بالتغيير الذي حصل في المجتمع البريطاني، إذ إنّ الأطبّاء الاستشاريين هم الذين قالوا لي: “عليك أن تذهب”، على أن يتولّوا تغطية أيّ ترتيبات في عملي”. ويضيف: “كانت هذه حربي الأولى. لكنّ المحزن جداً أنّه بسبب الانقسام بين حماس وفتح، منعت السلطة الأطبّاء من أن يداوموا، وطلبت منهم البقاء في منازلهم، وأصرّت على فصل كلّ من يذهب إلى العمل وقطع راتبه عنه… وفي الوقت نفسه بدأت ألاحظ تعيين أفراد في مراكز إدارية على أساس انتمائهم الحزبي (حماس)، بما يعني إعادة إنتاج نمط فتح”.

انتقل عام 2011 للعمل في مستشفى “الجامعة الأميركية” في بيروت. وهناك أُتيحت له متابعة أبحاثه المرتبطة بالإصابات لـ”فهم أبعاد الجرح كافّة: الجرح الجسدي وترميمه، إعادة شكله ووظيفته، وكذلك أبعاد الجرح المجتمعية والنفسية. هذا الاتجاه وفّرته لي الجامعة الأميركية، وكان مستحيلاً أن أناله في بريطانيا”.

قدّم لـ”الجامعة الأميركية” مشروعاً لإنشاء مركز بحثي “يعمل على تأطير كلّ التجارب التي نشاهدها في العراق وسورية وفلسطين، وذلك لفهم الجانب العلاجي والإكلينيكي في الإصابات. ويومها أُسّس في الجامعة “مركز الصحّة العالمية”، وتسملّت أنا والدكتور (العراقي) عمر ديّوشي إدارة برنامج طبّ النزاعات”.

عام 2016، أفضت جهوده إلى عقد أوّل مؤتمر دولي للتعريف بطبّ النزاعات، الذي يقارب الصراع المسلّح بإعادة رسم كلّ البنية الصحّية. يقول أبو ستة إنّ “الهدف من نظرية التأطير هو تحويل التجربة إلى خبرة، وأن تكون المؤسّسات هي الحافظ لهذه الخبرة، بما يمنحها القدرة على تقديم هذه الخبرة وتعليمها للآخرين”.

جزّ العشب” الديمغرافيّ

يرى أبو ستة أنّ “لحروب غزة ثلاثة أهداف رئيسية:

– الأوّل عسكري – سياسي.

– والثاني تسويقيّ يتمثّل في كون إسرائيل في كلّ حرب تُظهر لسوق السلاح الدولية نوعاً جديداً تريد تسويقه. وللمثال، فقد أصبحت المسيّرات التي تقذف الصواريخ بضاعة أساسية في تجارة السلاح الإسرائيلية بعد حرب 2008.

– أمّا الهدف الثالث فهو المساهمة في عملية البحث والتطوير التي تجرى في حقل الصناعة الحربية. ففي حرب 2008، اختبر الإسرائيليون سلاحاً جديداً هو DIME) Dense Inerte Material Explosive) الذي يُخرج من القنبلة نوعاً من الرذاذ أشبه بالسبراي المكوّن من جزيئيّات الكوبالت، وهو معدن ثقيل يسبّب بتراً خطيراً في الأطراف. وبعد تجارب مخبرية قام بها اكتشف أنّ هذا المعدن يصبح مسرطناً إذا ظلّت بقاياه في الجسم البشري.

لدى أبو ستة تفسير إكلينيكي لنسب الإصابات المرتفعة في صفوف الأطفال، “إذ إنّ صورة أشعّة لدماغ طفل تظهر أنّ مساحة المياه فيه أكبر بكثير ممّا عند الرجل البالغ، وبالتالي فإنّ دماغ الطفل معرّض أكثر للإصابة بالصدمة الناتجة عن الموجة الصوتية للقنبلة مقارنة بالرجل البالغ. ونلاحظ أنّ نسبة عالية من الأطفال استشهدوا دون أن تظهر عليهم آثار الشظايا لأنّ الموجة الصوتية تحدث تلفاً كبيراً في أنسجة الدماغ يسبّب الموت”.

إقرأ أيضاً: من يراقب خُطب الجمعة التحريضيّة… التي صنعت الموت طويلاً؟

يستخلص من تجاربه وأبحاث مؤرّخين بأنّه “علينا أن نفهم النكبة كعملية متواصلة وليس كحدث فحسب”. ويمضي في تشريح ما يُعرف بالعلاقة بين الجلّاد والضحيّة أو بين القاتل والمقتول، من خلال تطبيقها على القنّاصة الإسرائيليين الذين يتفنّنون في قتل الأبرياء. ويتوقّع استمرار الحروب الإسرائيلية على غزة انسجاماً مع المبدأ الذي أرساه آرييل شارون والذي يقضي بالعمل على “جزّ العشب” كلّما نبت وتنامى، أي شنّ حرب إبادة وتدمير بين وقت وآخر، في ظلّ قناعة إسرائيلية باستعصاء تطبيق حلّ نهائي سياسي أو عسكري لـ”مسألة غزة”.

في الوقت نفسه فإنّ هذه الحروب المستمرّة تشكّل تطبيقاً عملياً للعقيدة الاستراتيجيّة للدولة الإسرائيلية التي أشار إليها الباحث ميشال نوفل في مقدّمة الكتاب، حين أورد فقرة من خطاب ديفيد بن غوريون، أوّل رئيس حكومة لإسرائيل في 1948، في “وثيقة التأسيس” (يسمّونها “الاستقلال”)، حين شدّد على أهميّة الحفاظ على التفوّق الديمغرافي لليهود في الدولة. وربطه نوفل بتصريح لرئيس الحكومة الحالي بنيامين نتانياهو قاله عام 2013 يندرج ضمن السياق عينه.

تكمن أهميّة هذه الفقرة بالذات في أنّنا نجد التطبيق العمليّ لها في الحرب الحالية على غزة، ومساعي الحكومة الإسرائيلية الحثيثة الرامية إلى إيجاد حلّ نهائي لـ”مسألة غزة”، عبر توطين هذا الفائض البشري الغزّيّ، تارة في مصر والأردن، وطوراً في بعض البلدان الإفريقية، للتخفّف من الخطر الديمغرافي الفلسطيني.

في الحلقة الثانية غداً:

الجرحُ ميدانُ حربٍ وسياسة (2/2): سلاحٌ لهزيمة المُستَعمِر

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…