لماذا تفوّقت حماس في الحرب النفسيّة؟

2023-12-20

لماذا تفوّقت حماس في الحرب النفسيّة؟


ذروة الانتصار أن تتمكّن من كسر إرادة عدوّك من دون قتال، وفي أقلّ تقدير أن تهزمه بأقلّ قدر من الجهد والوقت والكلفة، بحسب ما جاء في كتاب “فنّ الحرب” للاستراتيجيّ الصيني صن تسو (توفّي عام 496 ق.م)، أي قبل 2,500 عام تقريباً. وبالقدر نفسه من الأهمية، أن تتجنّبَ الحرب الطويلة وما تنطوي عليه من استنزاف مادّي ومعنوي. لذلك تلجأ الجيوش إلى عناصر التضليل والمباغتة والصدمة والترويع لتسريع الانهيار في الطرف الآخر.

إسرائيل في هجومها الحالي على غزة فقدت معظم عناصر الانتصار السريع والحاسم في أقرب الآجال. فأكاذيبها قصيرة الأمد، وزمام المبادرة مع حماس التي هاجمت أوّلاً وفرضت عليها إيقاع الحرب، مكانها وزمانها وظروفها وعناصرها. فلم يبقَ أمامها سوى القصف الشامل غير المسبوق، منذ الحرب العالمية الثانية، لإحداث الصدمة النفسية اللازمة والضرورية وفرض الهزيمة الكاملة على الشعب الفلسطيني كلّه، وليس على حماس فقط.

إسرائيل في هجومها الحالي على غزة فقدت معظم عناصر الانتصار السريع والحاسم في أقرب الآجال. فأكاذيبها قصيرة الأمد، وزمام المبادرة مع حماس التي هاجمت أوّلاً وفرضت عليها إيقاع الحرب، مكانها وزمانها وظروفها وعناصرها

المفاجأة غير المتوقّعة أنّ تدمير عشرات آلاف الوحدات السكنية، ومن بينها أبراج ومجمّعات، وهدم جامعات ومستشفيات ومساجد، وتفجير مبنى المجلس التشريعي، وصولاً إلى جرف مقابر، في غضون أسابيع قليلة، وإبادة عائلات بأكملها، وبلوغ أعداد الشهداء والجرحى أرقاماً قياسية (أكثر من 20 ألف شهيد وأكثر من 50 ألف جريح)، وتهجير كلّ أهالي القطاع إلى مناطق صغيرة تفتقر إلى كلّ عناصر الحياة، في جنوب القطاع قرب الحدود مع مصر، لم تكسر عزيمة القتال، بل استوعبت المقاومة الصدمة الشديدة التي تزيح الجبال عن مواضعها، وراح أداؤها العسكري والإعلامي يتصاعد تدريجياً بدل أن يتراجع وينحسر، وهو ما شكّل صدمة معاكسة للمجتمع الإسرائيلي، ليس لها نظير في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مدى قرن كامل.

الهزيمة النفسيّة في 7 أكتوبر

تزعزعت بشدّة الهيبة العسكرية والأمنيّة لإسرائيل عقب هجوم حماس على غلاف غزة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. لكنّ صورتها الإعلامية تلطّخت بشكل أفظع عقب إطلاق هجومها المضادّ على قطاع غزة، الذي هدّم تقريباً كلّ ما بنته إسرائيل خلال عقود طويلة في الوجدان الغربي، من صورة متناقضة في ذاتها (الضحيّة المتفوّقة أخلاقياً وعسكرياً على عدوّها الضعيف الشرّير) بخروج الوحش بكلّ قباحته علناً، في زمن التواصل الاجتماعي، وحيث لا يمكن إخفاء أيّ شيء.

على الرغم من التفوّق الإسرائيلي العسكري والتكنولوجي المصاحب لتفوّق آخر لا يقلّ أهمية، وهو مجال الحرب النفسية، إلا أنّ المقاومة الفلسطينية الشاملة (حماس والفصائل، وكلّ فئات الشعب الفلسطيني)، تمكّنت ليس فقط من مجاراة العدوّ، في تكتيكات الحرب النفسية وحرب المعلومات، بل تفوّقت عليه. وهذا الإنجاز يوازي، وقد يفوق ما تحقّق عسكرياً في عملية 7 أكتوبر.

في السياق نفسه، لا بدّ بداية من تشخيص الاختراقات النفسية المهمّة التي أنجزتها حركة حماس في هجومها المباغت على فرقة غزة ومستوطناتها، قبل الالتفات إلى عناصر الحرب النفسية التي تقبع راهناً في صلب استراتيجيات مقاومة غزة للهجوم العسكري الشرس:

1- أسطورة الهجوم من أجل الدفاع عن الوجود: قامت أسطورة إسرائيل منذ أن كانت عصابات مسلّحة في ظلال الانتداب البريطاني المفروض على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، على المبادأة والمبادرة بالهجوم على الفلسطينيين خاصة، وعلى العرب عموماً. الاستيطان أصلاً هو خطوة هجومية تترافق مع عمليات متواصلة من الاعتداء والتهجير:

– فور إعلان تقسيم فلسطين عام 1947، بادرت القوات الإسرائيلية إلى الهجوم لفرض حدود جديدة.

– في عام 1956، شاركت إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عقب تأميم قناة السويس.

– في عام 1967، دمّرت الجيشين المصري والسوري في ساعات قليلة، واحتلّت الضفّة الغربية والجولان وسيناء.

– وحدها حرب 1973 كانت استثناء، حين بادر الجيشان المصري والسوري إلى شنّ الهجوم، فكان الارتباك الإسرائيلي في ذروته.

– خطورة هجوم حماس على غلاف غزة أنّه ينسف الأسطورة بعد خمسين سنة من حرب تشرين 1973.

2- أسطورة التفوّق عسكريّاً وأمنيّاً وتكنولوجيّاً وإعلاميّاً، وهي الأسطورة الثانية التي انهارت. وهناك أربعة مشاهد لا يمكن إغفالها:

أ- اكتساح مواقع فرقة غزة وقتل مئات الجنود والضباط، وأسر أكثر من مئة، وهو رقم غير مسبوق، بهجوم نفّذه 1,200 مقاتل فقط، مع بثّ الصور الصادمة بعد وقت قليل: (جرّ الجنود من فوق دبّابة الميركافا، حرق الدبابات في المعسكرات، تصفية الجنود في مواقعهم، اعتقال الضبّاط، نقل مستوطنين إسرائيليين على الدرّاجات النارية إلى قلب القطاع).

ب- التفوّق الواضح على كلّ الإجراءات الأمنيّة الإسرائيلية، لا سيما الجدار الفاصل الذي كلّف أكثر من مليار دولار، ويندرج في هذا السياق التضليل المنهجي الذي مارسته حماس في الأشهر التي سبقت الهجوم، حين أوهمت إسرائيل بالرغبة في السلام، مع الاحتفاظ بأعلى قدر من سرّية العملية، مع أنّها نفّذت مناورات وتدريبات على العملية نفسها أمام أعين الرقابة الإسرائيلية.

ج- مجاراة التفوّق التكنولوجي بتكتيكات مضادّة لم يُكشف عنها النقاب بعد بشكل تفصيلي. فكيف نجحت حماس في عبور الفجوة التكنولوجية بينها وإسرائيل؟ وكيف حصلت على معلومات حسّاسة وتفصيلية للمواقع والقواعد الإسرائيلية، وهو سرّ النجاح العملياتي؟

د- وأخيراً، حقّقت حماس التفوّق الإعلامي، من خلال بثّ تسجيلات متلاحقة للإعلام العسكري وثّقت العمليات الهجومية في غلاف غزة وفي المستوطنات، بشكل سريع وشبه فوري بما عظّم من حجم التأثير لدى المتلقّي الإسرائيلي، في زمن مكثّف، وهو من قبيل الصدم والترويع، كما أثار التعاطف القويّ لدى المتلقّي المؤيّد لفلسطين أصلاً، وفي الجمهور الأوسع، لا سيما لدى الفئات الشبابية في المجتمعات الغربية. فصورة البطل تُلهم الشباب في كلّ الأحوال، قبل أن تتعزّز الصورة لاحقاً بالأساس السياسي والأيديولوجي الذي يؤكّد عدالة القضية.

استثمرت إسرائيل هجوم حماس لتعزيز صورتها كضحية أكثر فأكثر، ولتبرير الانتهاكات اللاحقة للقوانين الدولية، مع اختراع روايات الفظائع التي ارتكبها رجال حماس في المستوطنات، ولا سيما حكاية ذبح الأطفال، وحرق المستوطنين، واغتصاب النساء

الهجوم الإسرائيليّ إعلاميّاً ونفسيّاً

بالمقابل، استثمرت إسرائيل هجوم حماس لتعزيز صورتها كضحية أكثر فأكثر، ولتبرير الانتهاكات اللاحقة للقوانين الدولية، مع اختراع روايات الفظائع التي ارتكبها رجال حماس في المستوطنات، ولا سيما حكاية ذبح الأطفال، وحرق المستوطنين، واغتصاب النساء.

تمكّنت إسرائيل بفضل الآلة الإعلامية الضخمة التي يهيمن عليها أصدقاؤها في الغرب، من توجيه حملة منسّقة هائلة لشيطنة حماس، ومقارنتها بداعش. وتبنّاها دون سؤال أو نقاش، زعماء الدول الغربية، ابتداء من الرئيس الأميركي جو بايدن. وهو ما جعل الغرب يتضامن ككتلة صمّاء وراء الهجوم الإسرائيلي. فكانت الموافقة “الغربية” العميمة أن لا وقف لإطلاق النار قبل تحقيق النصر على حماس. وهو نوع قاتل من الحرب النفسية لنشر اليأس في صفوف الفلسطينيين من أيّ بصيص أمل بوقف المذبحة، إلا أن ينقلبوا على المقاومة.

قيل عن أهل غزة كلّهم، وليس عن حماس فقط، على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، إنّهم “حيوانات بشرية”، بعد يومين من هجوم 7 أكتوبر، وكان هذا تمهيداً لأشنع حملة إبادة من دون حدود ولا قيود. لكنّ المفاجأة الصادمة لإسرائيل أنّ أكاذيبها افتُضحت بسرعة قياسية:

– تهاوت سرديّة الضحيّة على نحوٍ مفزع.

– ظهرت روايات إسرائيلية مضادّة تفنّد مزاعم حكومة نتانياهو (كثير من المستوطنين في غلاف غزة قُتلوا إمّا عمداً لأنّهم رهائن بيد حماس، أو بالخطأ بسبب الذعر).

– انتشرت مشاهد القتل المروّع للأطفال والنساء في قطاع غزة، وحصار المستشفيات وتخريبها، واغتيال الصحافيين والأطبّاء والمُسعفين.

– في تلك اللحظة الفاصلة، انتقلت صورة الضحيّة من طرف إلى آخر، واتّسع التضامن العالمي مع فلسطين وغزة إلى مدى غير معهود.

– فأصيبت بالعطب أدوات التأثير الإعلامي الإسرائيلي، وتغلّبت عليها مشاهد الصمود والشجاعة في القتال، وحالات إنسانية نادرة من رباطة الجأش أمام الأهوال. باتت غزة رمزاً عصيّاً على الكسر.

حرب نفسيّة مضادّة

مع بدء الهجوم الإسرائيلي البرّي على قطاع غزة في 27 تشرين الأول الماضي، توغّلت الدبّابات في العمق. ومن دون مقاومة قويّة، طوّقت شمال القطاع وفصلته نظرياً عن جنوبه، وجعلت المستشفيات أهدافها الرئيسية، قبل أن تنتقل إلى المعقل الرئيسي في مدينة خان يونس في الجنوب، إثر هدنة إنسانية لأيام قليلة.

هنا بدأت مرحلة جديدة من القتال، ومعها الحرب النفسية. في الأيام الأولى للغزو البرّي، ساد الغموض والإحباط لقليل من الوقت، قبل أن تنطلق حرب العصابات بين أنقاض البيوت، مع بثّ متواتر لمشاهد العمليات الفلسطينية الفدائية، وتدمير يومي لناقلات الجند والجرّافات والدبّابات، بقذيفة الياسين المحليّة الصنع، وأحياناً بوضع عبوة “العمل الفدائي” على جسم الدبابة نفسها، وقتل الجنود من مسافة صفر، وأحياناً بكمائن مركّبة كما حدث في الشجاعية، واستمرار قصف الصواريخ إلى الداخل الإسرائيلي وصولاً إلى تل أبيب وما بعدها، وإلى منطقة القدس.

إقرأ أيضاً: غزّة تنقذ بوتين في أوكرانيا

بات صوت أبو عبيدة خطراً ينبغي إسكاته، كما هو حال كاميرات المصوّرين التي توثّق المجازر الإسرائيلية في المستشفيات ومدارس الإيواء. وقد يكون من المشاهد الأكثر إيلاماً من الناحية النفسية، ذاك المقاتل الفلسطيني وفي قدميه “شبشب”، بلباس رياضي، وهو يطلق القذيفة على ميركافا بين الركام، أو أولئك المقاتلون الحفاة وهم يصعدون تلة ترابية، استعداداً للانقضاض على مواقع العدوّ. وناهيك عن تصوير الأسرى وهم يناشدون حكومتهم وقف إطلاق النار.

بلغت الحرب النفسية المضادّة ذروتها مع بثّ مشاهد الدبّابات المدمّرة والجنود الجرحى، بعد الاستيلاء على كاميرا جندي إسرائيلي.

جلّ ما أراده نتانياهو صورة نصر في غزة ولو كان مزيّفاً (اعتقال فلسطينيين من مدرسة إيواء وإذلالهم على أنّهم من حماس، والقبض على نفق مهجور قرب معبر إيريتز).

لكنّ حماس ترفض بعناد منح عدوّها هذه الفرصة.

مواضيع ذات صلة

لبنان بالخيار: حرب مفتوحة أم فصل المسارات؟

هو أشبه بفيلم رعب عاشه اللبنانيون منذ يوم الثلاثاء الفائت. في الوقت الذي بدأ الحزب بتحقيقاته الداخلية للوقوف على أسباب الخرق ومن يقف خلفه، تستعدّ…

ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟

دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى…

ما بعد 17 أيلول: المدنيّون في مرمى الحزب؟

دقائق قليلة من التفجيرات المتزامنة في مناطق الضاحية والجنوب والبقاع على مدى يومين شكّلت منعطفاً أساسياً ليس فقط في مسار حرب إسناد غزة بل في تاريخ الصراع…

ألغام تُزَنّر الحكومة: التّمديد في المجلس أم السراي؟

ثلاثة ألغام تُزنّر الحكومة و”تدفشها” أكثر باتّجاه فتح جبهات مع الناقمين على أدائها وسط ورشتها المفتوحة لإقرار الموازنة: 1- ملفّ تعليم السوريين المقيمين بشكل غير…