“حماس لاند” تشوّه “طوفان الأقصى”

2023-12-07

“حماس لاند” تشوّه “طوفان الأقصى”


كلّما برزت القضية الفلسطينية، قضيةً أولى على مستوى العالم، وصارت محور أخبار الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي ومحور الاجتماعات والتصريحات الدولية، ينزلق رافعو لوائها إلى زواريب أبعد ما تكون عن بوصلة القضية الحقيقية، أي فلسطين المحتلّة والاحتلال الإسرائيلي.

حدث هذا في الأردن، قبيل سبعينيات القرن الماضي، يوم صارت الضفة الشرقية، أي الأردن، أَولى بالتحرير من الضفة الغربية. وحدث في لبنان بعد السبعينيات، إذ صار طريق فلسطين يمرّ بجونية.

طلائع طوفان الأقصى

اليوم، وبعدما أعادت عملية “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، بعدما كادت أن تذهب أدراج الرياح وتصبح نسياً منسيّاً، تخرج علينا حركة حماس ببيان أقلّ ما يقال فيه إنّه يسيء إلى القضية الفلسطينية قبل أيّ شيء آخر. الاستدراك بالتراجع لا يفيد. في الأصل والأساس: من فتح لبنان مشاعاً؟

حرصاً على الفلسطينيين في كلّ مكان، وعلى المقاومة الفلسطينية، ودعماً للحقّ الفلسطيني، وسعياً نحو تحرير فلسطين: طريق فلسطين لا تمرّ بغير قرى فلسطين وبلداتها ومدنها. وتحرير فلسطين لا يكون إلا بأيدٍ فلسطينية

هذا السؤال يبقى عبء الإجابة عليه ملقيّاً على الحزب. ينسى الحزب ومن قبله حماس أنّ لبنان بفوائضه الوطنية غالب حتى ذاته من أجل عدالة القضية الفلسطينية. ومن أجل استقلال القرار الوطني الفلسطيني. هذا ليس تمنيناً. مجرّد تذكير لا أكثر ولا أقلّ.

قبل أن يسيء “بيان حماس” إلى لبنان وينتهك سيادته، فالحركة في بيانها أعلنت عن تأسيس “طلائع طوفان الأقصى” انطلاقاً من لبنان، داعيةً أبناء الشعب الفلسطيني فيه إلى الانضمام إليها في ظلّ الحرب المدمّرة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، وذلك “تأكيداً لدور الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن وجوده في مقاومة الاحتلال بكلّ الوسائل المتاحة والمشروعة، واستكمالاً لما حقّقته عملية طوفان الأقصى، وسعياً نحو مشاركة رجالنا وشبابنا في مشروع مقاومة الاحتلال والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم العلمية والفنّية”. ودعت الحركة في لبنان أبناء الشعب الفلسطيني وكلّ الشباب والرجال إلى الانضمام إلى طلائع المقاومين والمشاركة في “صناعة مستقبل القضية الفلسطينية وفي تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك”.

لاحقاً، بعدما أثار البيان هذا ما أثار من ردود فعل، وبعد شجب واستنكار غالبية القوى والأحزاب اللبنانية، حاولت الحركة طمأنة اللبنانيين، على لسان قياديّيها، بأنّ ما سبق الإعلان عنه “ليس تشكيلاً عسكرياً من أجل استيعاب مقاتلين وتدريبهم للانخراط في صفوف المقاومة المسلّحة، وإنّما هي إطار شعبي تعبوي فقط من أجل استيعاب الشباب الفلسطيني”.

شيء من التاريخ

أثبتت كلّ التجارب السابقة، لفصائل المقاومة الفلسطينية بمختلف انتماءاتها وعقائدها وسياساتها، أنّ النضال من أجل فلسطين حين يكون في فلسطين ومنها وإليها، يؤتي أكله، بينما يُفضّ اجتماع المجتمعين حولها وعلى أحقّيتها وعدالتها، حين ينطلق من أماكن أخرى وفي سبيل قضايا ثانوية لا تمتّ إلى قضية فلسطين بصلة.

في لبنان، ضلّت منظمة التحرير الطريق، ودخلت في دهاليز الزواريب اللبنانية الضيّقة، حتى صارت طرفاً في الصراع الدائر فيه وعليه، فخسرت اللبنانيين جماعةً جماعةً، وطائفةً طائفةً، وحزباً حزباً، ومنطقةً منطقةً. كانت منظمة التحرير تتدخّل في كلّ شاردة وواردة في لبنان، من السياسات الكبرى المتّصلة بالعلاقة مع مختلف دول العالم، إلى تعيين حاجب صغير في وزارة ما، مروراً بانتخابات رئاسة الجمهورية التي وصل الأمر بالمنظمة أن كانت تجري امتحانات للمترشّحين، وفي ضوئها تُحدّد نتائج المعركة الانتخابية. هذا حصل في حضور كمال جنبلاط مُستنداً إلى “الحركة الوطنية” التي حمّلت البلد ما لا يحتمل.

في لبنان، ضلّت منظمة التحرير الطريق، ودخلت في دهاليز الزواريب اللبنانية الضيّقة، حتى صارت طرفاً في الصراع الدائر فيه وعليه، فخسرت اللبنانيين

هكذا خسرت الموارنة، ثمّ الشيعة، ثمّ انفضّ الآخرون من حولها أو ابتعدوا عنها رويداً رويداً. وكذلك خسرت المناطق اللبنانية الأقرب إلى فلسطين المحتلّة، فانقلبت عليها البيئة الجنوبية، وهو ما أفقدها المرابطة على تخوم فلسطين، وقبل ذلك خسرت المناطق الأردنية المتاخمة للحدود مع فلسطين، وبينهما خسرت الحدود السورية مع فلسطين المحتلّة. أدّى ذلك كلّه إلى انتقالها إلى بلاد أبعد ما تكون عن فلسطين جغرافيّاً، أي تونس.

لم يكن الإعلان عن تأسيس “طلائع طوفان الأقصى”، هو وحده ما أثار حفيظة الرأي العام اللبناني، خصوصاً في الأوساط المسيحية عموماً. فقبل الإعلان هذا، ومنذ بداية الحرب على غزة، نفّذت كتائب عزّ الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، سلسلة عمليات ضدّ الاحتلال الإسرائيلي انطلاقاً من جنوب لبنان، في خرق واضح للسيادة اللبنانية.

البيان الأخير لحماس، معطوفاً على سلسلة العمليات العسكرية التي نفّذتها فصائل فلسطينية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، أعاد إلى أذهان اللبنانيين ماضياً تثبت الأيام، يوماً تلو يوم، أنّه لا يمضي، وفي ذلك دلالة على هشاشة السلم الأهلي اللبناني، ومآلات الحرب التي اندلعت فيه وكان الطرف الرئيس فيها منظمة التحرير الفلسطينية.

بيان أعاد بلمح البصر اتفاقية القاهرة وملابسات التوقيع عليها ثمّ إلغائها، وتاريخاً كاملاً من الشقاق اللبناني ـ اللبناني، والتجاوزات الفلسطينية على الصعد كافّة.

كان اسمها “فتح لاند”.. صار اسمها “حماس لاند”

كان اسمها “فتح لاند”، وصار اسمها “حماس لاند”، وكأنّ لبنان لم يدفع أكثر بكثير ممّا عليه من أثمان نتيجة نكبة فلسطين. منذ عام 1948، ولبنان يدفع ضريبة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ساعةً دماً وساعةً قلاقل وأحداثاً أمنيّةً، وساعةً اعتداءات إسرائيلية ثمّ احتلالات، وساعات انهياراً اقتصادياً وحروباً أهليةً وغيرها الكثير الكثير.

وحده لبنان يقف بين إخوته العرب شامخاً مرفوع الرأس وقد دفع ما دفع من حصّته في قضية العرب المركزية، وما دفعه لبنان في هذا المجال أكثر بكثير ممّا يتوجّب عليه. كاد لبنان أن يزول من خريطة العالم في سبيل فلسطين، وفي أكثر من محطة، وربّما محطة اليوم أبرزها وأشدّها خطراً.

إقرأ أيضاً: إعاقة إعمار غزّة: العقوبات الأوروبيّة جزء من خطّة التهجير؟

“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. حسناً، لذا لن نطرح الأسئلة الآن في ظلّ الوحشية الإسرائيلية وجريمة الإبادة التي تنفّذها إسرائيل في حقّ أهل قطاع غزة خصوصاً وفلسطين عموماً، ولكن حين تنتهي الحرب سنسأل: من فتح جبهة الجنوب؟ ولماذا؟ وما هي الخدمة الجليلة التي يقدّمها بعض اللبنانيين ذوو الشوكة في الجنوب اللبناني، بجعل الجنوب جبهة إسناد وإشغال حتى اللحظة، دعماً لأهل غزة ومقاومتهم؟

لكن حرصاً على الفلسطينيين في كلّ مكان، وعلى المقاومة الفلسطينية، ودعماً للحقّ الفلسطيني، وسعياً نحو تحرير فلسطين: طريق فلسطين لا تمرّ بغير قرى فلسطين وبلداتها ومدنها. وتحرير فلسطين لا يكون إلا بأيدٍ فلسطينية. والعملية العسكرية التي تنطلق من الأراضي الفلسطينية تخدم القضية أكثر بكثير من العمليات التي تنطلق من خارج فلسطين، فتضرّ بفلسطين وغيرها. هذا ما يقوله التاريخ القريب والبعيد، وما تفصح عنه التجارب المريرة في أكثر من بلد عربي، وهذا ما أثبتته الأيام، أقلّه منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…

إسرائيل… انبهار وقلق

تصلح مشروع فيلم هوليوودي بعنوان “إعصار البيجر”. مع أنها جريمة حرب مكتملة الشروط، تستحق أن تدرج كقضية أمام محكمة العدل الدولية، وكدليل يضاف إلى ملف…

لبنان ضحيّة المفهوم الخاطئ للانتصار!

يُخشى تحوّل لبنان ضحيّة أخرى للمفهوم الخاطئ للانتصار، وهو مفهوم رائج لدى قسم كبير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ليس مفهوماً إلى الآن كيف يمكن…

“علوّ اليهود في الأرض”.. كيف نواجهه؟

“إعصار البايجر” هو النقطة الفاصلة في هذه الحرب، الإسنادية في شكلها، الاستنزافية في جوهرها. هو ليس تفصيلاً بسيطاً، بل رأس الجبل من تجويف خطير لخطاب…