العراق: الحلبوسي فاسد؟ ماذا عن الفاسد الأكبر والقتلة الكبار؟

مدة القراءة 7 د


الشراكة، التوافق، التوازن، يفترض أنّها الشروط الرئيسية لضمان التعايش والاستقرار في أيّ بلد يتميّز بالتنوّع والتعدّد الثقافي والديني والإثني. ولمّا تغيب هذه القواعد الثلاث تسقط الدولة في الفوضى والاضطراب السياسي وخطر الانقسام.

صارت ثقافة الإقصاء جزءاً من هويّة النظام السياسي في العراق الحالي. يمكن اجتثاث أو إقالة أو إخراج أيّ فصيل سياسي، أيّاً كان حجمه وتمثيله، لمجرّد أنّ مواقفه أو رأيه أو حساباته لا تتماشى مع أهداف أو مصالح قوى الأمر الواقع المهيمنة على مقدّرات البلاد ومفاصلها السياسية والتنظيمية بدعم علنيّ من إيران أو مقنّع من أميركا.

إخراج الشيعة والسُّنّة؟

في الأمس، التيار الصدري، صاحب الشعبية الساحقة في مناطق شاسعة من العراق، دُفع دفعاً إلى خارج البرلمان والحكومة على الرغم من أنّه خرج من الانتخابات بأكبر كتلة نيابية وحاضنة جماهيرية، فانقسم الشارع الشيعي في البلاد إلى قسمين.

الشراكة، التوافق، التوازن، يفترض أنّها الشروط الرئيسية لضمان التعايش والاستقرار في أيّ بلد يتميّز بالتنوّع والتعدّد الثقافي والديني والإثني. ولمّا تغيب هذه القواعد الثلاث تسقط الدولة في الفوضى والاضطراب السياسي وخطر الانقسام

اليوم، المحكمة الاتحادية العليا في البلاد أنهت عضوية رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي في المجلس الاشتراعي بـ”شحطة” قرار، وتالياً أخرجته من المنصب الثاني في البلاد إلى البيت، ووضعت ثاني أكبر المكوّنات العراقية، أي العرب السُّنّة، أمام احتمال انقسام مماثل للانقسام الشيعي. وهكذا تكتمل السلسلة إذا ما أُضيف إليها حلقة الانقسام الكردي ما بين حزب إربيل، الديمقراطي الكردستاني، وحزب السليمانية، الاتحاد الوطني الكردستاني، بعدما أُعطيت رئاسة الجمهورية للسليمانية على حساب إربيل.

المحكمة الاتّحاديّة… فوق الدستور

اللافت في قضية الحلبوسي وقبلها قضية تفسير مفهوم “الكتلة النيابية الكبرى” وقضية عائدات نفط كردستان، وكلّها قضايا مفصّلة على المقاس السياسي وليس القانوني، هو صلاحيات المحكمة الاتحادية التي منحها الدستور العراقي حصانة مطلقة لم يمنحها لنفسه. فصارت المحكمة فوق التشريع والسلطة الاشتراعية العليا التي أوجدتها، وتحوّلت إلى سلطة عليا فوق كلّ السلطات لا تأتمر بالدستور، بل بإرادة من يتحكّم بقرارها، أكان لاعباً محلياً أو خارجياً، فتحوّل الدستور من نصّ قانوني أعلى يحكم مبادىء إدارة الدولة ومؤسّساتها إلى وسيلة للاحتجاج السياسي، وصار خرق الدستور مسألة عاديّة. وصار التفسير القانوني الأداة لإضفاء شرعية على كلّ ما يحصل في المنطقة الخضراء وأروقتها من ألاعيب السلطة والتحكّم بالحياة السياسية، ووسيلة للاغتيال السياسي في حال عجزت البندقية الميليشياوية عن تأدية دورها التأديبي للمغرّدين خارج سرب الميليشيات.

ماذا عن المالكي والعامري والخزعلي والخنجر؟

لم يصدّق أحدٌ في العراق أنّ خلفية قرار المحكمة الاتحادية هو فساد الحلبوسي. كذلك لا أحد منهم يصدّق أيضاً أنّ الحلبوسي نفسه ليس شريكاً فاعلاً في عملية الفساد الكبرى التي ساهمت في خطف الدولة. ولو كان في العراق دولة فالأمر لا يحتاج إلى محكمة عليا لإثبات أنّ العراق ينخره الفساد.

إذا كان الحلبوسي فاسداً فماذا عن فساد الآخرين والمليارات الصفر التي جنوها في أبشع استباحة لثروات العراق؟ ماذا عن نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وخميس الخنجر وعشيرة البرزاني؟

ماذا عن غالبية من شارك في السلطة في العراق منذ 2003 حتى اليوم؟ ماذا عن القتلة في وضح النهار؟ وماذا عن الميليشيات التي استباحت قرى وبيوتاً؟ ماذا عن الذين سلّموا 3 محافظات لـ”داعش” بلا طلقة رصاص واحدة؟

ماذا عن الذين صرفوا موازنات ضخمة على جنود “فضائيّين” لا وجود لهم في الثكن ولا في الميدان؟ ماذا عن الذين بنوا على الورق المستشفيات والمدارس ومشاريع الريّ وفي العام التالي وضعوا موازنات خيالية قيد الصرف لهذه المشاريع الوهمية؟

تبادل الحلبوسي المنفعة مع خصومه الحاليين والأحزاب الموالية لإيران عندما كان ثمّة حاجة متبادلة للطرفين. وعندما راح يغرّد خارج السرب ويبحث عن دور أكبر من منصبه ومصادر دعم جديدة تخوّله أن يصير الزعيم الأوحد للسُّنّة العرب في العراق، لم يعدم حلفاؤه السابقون أيّ وسيلة لإقصائه، ونجحوا في ذلك من خلال حكم قضائي مرسوم على مقاس مصالحهم، على أمل إيجاد بديل يناسب هذا المقاس.

لم يصدّق أحدٌ في العراق أنّ خلفية قرار المحكمة الاتحادية هو فساد الحلبوسي. كذلك لا أحد منهم يصدّق أيضاً أنّ الحلبوسي نفسه ليس شريكاً فاعلاً في عملية الفساد الكبرى التي ساهمت في خطف الدولة

سقوط الحلبوسي “غير المدوّي”

مع ذلك لم يكن سقوط الحلبوسي مدوّياً على الرغم من أنّه كان يحتلّ منصباً رفيعاً. وهو ما يؤكّد هشاشة هذا الموقع وضعفه مكانته، ويكشف أنّ السلطة الفعلية في البلاد قد نجحت في تمييع الحدود في النظام الطائفي بما ييسّر لها تصريف شؤونه مثلما تريد.

السؤال اليوم: هل القيادي السنّيّ الآخر خميس الخنجر أو أيّ شخصية سنّية أخرى سيعيد تجربة “الإطار التنسيقي” عندما صادر كلّ مناصب التيار الصدري بعد اعتزال مقتدى الصدر العملية السياسية قبل أكثر من عام، ويدفع تالياً إلى انقسام سنّي جديد؟ أم إقالة الحلبوسي من دون إيجاد بديل معتبر يملأ الفراغ في المنصب الأعلى الذي يتولّاه السُّنّة ستحيي الاتّهامات القديمة بتهميش ثاني أكبر مكوّن عراقي؟

هذه الخشية وهذا القلق أبداهما رئيس حكومة كردستان العراق مسرور البارزاني الذي رأى أنّ الإقالة جاءت في توقيت غير مناسب، لا سيما في ظلّ التوتّر الحاصل في المنطقة وتحوُّل العراق إلى واحدة من ساحات الصراع.

بدء موجة استقالات؟

ربّما الانعكاس السلبي الأول لهذه الإقالة على العملية السياسية تقديم 3 وزراء مدعومين من كتلة “تقدّم” النيابية استقالتهم من الحكومة وإعلان الكتلة عزمها الامتناع عن حضور جلسات البرلمان أو تعطيل القرارات التي لا تتلاءم مع توجّهاتها.

إقرأ أيضاً: أميركا وإيران: “عدوّان” يتبادلان الخدمات في العراق

في حال حدثت استقالة واسعة لهذه الكتلة فسيكون ذلك بمنزلة ثاني أكبر تحوُّل طائفي في التوازن السياسي منذ الاستقالة الجماعية للكتلة الصدرية في حزيران 2022، التي تسبّبت باضطرابات سياسية داخل الطائفة الشيعية.

سيكون لها أيضاً تأثير واضح على الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها قريباً لاختيار مجالس المحافظات التي كان قد جرى حلّها عام 2019 أثناء الحرب على داعش. وقد تشهد هذه الانتخابات انقلابات جذرية في المشهد السياسي بسبب الانقسامات داخل المكوّنات العراقية، لا سيما في صفوف الشيعة بعد قرار التيار الصدري صاحب الشعبية الكاسحة عدم المشاركة فيها. وهذا سيترك تداعيات صعبة على حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي يواجه أصلاً مشكلة مع واشنطن بسبب دعمه الصريح لفصائل الحشد الشعبي التي شاركت في قصف المواقع الأميركية على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة.

قد يكون الدخول المباشر للسفيرة الأميركية إليانا رومانوسكي على خطّ إقالة الحلبوسي ورفضها إجراء المحكمة الاتحادية، واجتماعها معه بصفته رئيساً فعليّاً لمجلس النواب لا رئيساً مخلوعاً، مؤشّراً إلى نيّة واشنطن ليس تصحيح التوازن المفقود حالياً في العراق، بل اعتماد نهج المواجهة مع أفرقاء في الحكومة الحالية، في محاولة لاستثمار هذا الحدث وتوظيفه في إعادة ضبط العراق وفق المسار الذي تريده، لا سيما بعدما أعاد العدوان على غزة فتح ملفّات الشرق الأوسط.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…