أيّاً كانت نتائج المعركة الميدانية على أرض غزّة، الثابت أنّ إسرائيل قد هُزمت. يبقى سؤال واحد ينتظر الإجابة. سؤال يحمل في بعض جوانبه شيئاً من التراجيديا الإغريقية: من يخرج منتصراً من هزيمة إسرائيل: حماس؟ أم فلسطين؟ وماذا لو لم يتّسع مقعد الانتصار إلّا لاسم واحد من الاسمين؟
*****************************
بلى هُزمت إسرائيل. نقطة على سطر.
هي نقطةٌ من دم طفل فلسطيني. على سطرٍ من رمل غزّة الذهبي.
ذلك أنّ إسرائيل قبل أن تكون دولة وجيشاً واقتصاداً تريليونيّاً وسيليكون فالي أوسطيّاً. إسرائيل في الأساس فكرة ومفهوم. جوهرُهما أمران اثنان:
أولاً، أن يأتي غريبٌ عن هذه الأرض وأن يستوطن فيها. وثانياً أن يقبل الغرب بذلك. وأن يشجّعه ويموّله ويدافع عنه. لأسباب تراوح بين تنفيس عقدة ذنب غربية مصنوعة منذ عقود سابقة وأيام الهولوكوست. وبين مصالح جيوسياسية لهذا الغرب لعقودٍ آتية.
العاملان المؤسّسان لهذه الإسرائيل سقطا في حرب غزّة. صورة المستوطن الهارب، لا من غلاف غزّة وحسب، بل أيضاً عبر المطار بعيداً عن إسرائيل، كافية لتأكيد سقوط العامل الأوّل.
فيما الانقلاب في موقف الغرب كان فعلاً مدوّياً. ومن المفيد للآن ولما بعد ما بعد غزّة والآن، استعراض جردة أوّلية بعلامات هذا الانقلاب:
هُزمت إسرائيل غرباً حين نزل مئات الآلاف دعماً لفلسطين حرّة. في كلّ أوروبا. لكن أيضاً وخصوصاً في واشنطن نفسها.
هُزمت إسرائيل غرباً، حين كتب سفراء ماكرون معترضين على موقفه المنحاز لارتكابات نتانياهو.
يبدو أنّ حماس ذاهبة إلى لحظة تراجيدية على الطريقة الإغريقية. ذلك أنّ ما أنجزته في عملية “طوفان الأقصى”، هو فعلاً ما فجّر قضية فلسطين في العالم
وحين صرخت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية، إيوني بيلارا: فلسطين حرّة! مندّدة بنتانياهو ومؤكّدة سعيها إلى ملاحقته جزائياً، بتهمة جرائم حرب وإبادة.
وهُزمت إسرائيل حين أعلنت زعيمة حزب شين فين الإيرلندي، ماري لو ماكدونالد، إدانتها إسرائيل ودعمها استقلال فلسطين. وحين وقف 1,200 عضو في مؤتمر حزبها، تحيّة لسفير فلسطين في دبلن. فيما حزبها وريث “الجيش الجمهوري الإيرلندي”، هو حزب استقلال إيرلندا. وفيما إيرلندا هي أرض المهاجرين الأميركيين الأوائل. ومن بينهم بايدن نفسه الذي عاد لزيارة جذوره في شمالها قبل أشهر قليلة.
وهُزمت إسرائيل حين غنّت استوكهولم كلّها أغنية اللاجئ الفلسطيني جورج توتاري، المحظورة منذ عقود لدعوتها صراحةً إلى سقوط النظام الصهيوني: “تحيا فلسطين، نحن زرعنا الأرض، وحصدنا القمح، وقطفنا الليمون، وعصرنا الزيتون، وكلّ العالم يعرف أرضنا”.
وهُزمت إسرائيل أكثر وأعمق، لا حين يحتجُّ ألف موظّف في الإدارة الأميركية، على سياسات بايدن الإسرائيلية، حرصاً منهم على مصالح واشنطن الخليجية، بل حين تنشر مراكز الأبحاث الأميركية دراسات ومقالات عن أزمة إسرائيل العميقة مع عقل “الجيل زد” (أي الجيل المولود بين منتصف تسعينيات القرن الماضي ومنتصف العقد الأول من هذا القرن). وحين يشرح معهد “أميركان إنتربرايز” في دراسة مطوّلة كيف أنّ الأميركيين الذين يثقون بسياسيّيهم من هذا الجيل، هم نصفهم من جيل أسبق.
وهُزمت إسرائيل حين يكتب فريدريك هيس من “فوكس نيوز” مقاله عن “ماذا لو كانت هارفرد سيّئة لأميركا؟”، مستنكراً تحوّل هذا الصرح العريق، المُنبت لنخب واشنطن وحكّامها وإنتلجنسيّتها، معقلاً لمنتقدي النظام الصهيوني ورافضيه والثائرين على ممارساته.
هُزمت إسرائيل هناك إذن. في عقل الغرب. فيما طهران منهمكة بإعدام ثلاثة من أبناء بلوشستان، لتُتمّ رصيد الستمئة إعدام في 10 أشهر. وفيما المتظاهرون داخل إسرائيل نفسها ضدّ نتانياهو بالذات، أكثر عدداً ربّما من مجموع المتظاهرين في عواصم الصمود والتصدّي العربية.
لا مكان لانتصار حماس في الغرب
هُزمت إسرائيل. لكن لمصلحة من؟ ومن سيخرج منتصراً فوق ركام أساطير تأسيسها في العقل الغربي؟
حماس؟ كأنّ ثمّة استحالة واقعية ومنطقية حيال هذا الاحتمال.
ففي هذا العقل الغربي المنتصر لفلسطين نفسه، لا مكان لانتصار حماس. وذلك لأربعة أسباب على الأقلّ:
– أوّلاً، لأنّه يرى في حماس حرباً أهلية فلسطينية فلسطينية. قياساً إلى تجربة غزّة منذ 2006. وقياساً إلى سجلّ حماس في حكم غزّة منذ ذاك الحين. في عقل هذا الغرب المؤيّد لفلسطين، أنّ السلام يعني دولتين. وأنّ سلام الدولتين يعني مسار أوسلو. وأنّ أوسلو تعني منظمة التحرير. لا بل في هذا العقل، أنّ المنظمة ما زالت تمثّل أكثريّة فلسطينية. حتى في غزّة نفسها. وأنّ حماس مجرّد سلطة. بما فيها من موبقات السلطة كافّة.
– ثانياً، لأنّه يرى في حماس حرباً عربية عربية. انطلاقاً من انضوائها تحت تنظيم الإخوان المسلمين. فيما الربيع العربي الذي أجهضه هؤلاء، لم يغب عن ذاكرة الغرب والعرب والمسلمين أنفسهم.
– ثالثاً، لأنّه يرى في هذه الحركة حرباً إقليمية متمادية. لأنّها امتداد لأذرع إيران في المنطقة. على الرغم من كلّ ما رافق “طوفان الأقصى” من تباينات واتّهامات تنصّلٍ وتخلٍّ بين سلطة غزّة وطهران. فخطاب يحيى السنوار في “يوم القدس” الخمينيّ بالذات في نيسان الماضي، يوثّق تبعيّته لمحور طهران – القدس.
– رابعاً وأخيراً، لأنّ الغرب يرى في حركة السنوار ورفاقه، مشروع حرب دينية عالمية. لا حركة تحرّر وطنية. وهو ما يؤكّده خطاب هؤلاء وأدبيّاتهم ولغتهم وقاموسهم كلّ يوم. في كلّ بيان وتصريح وهتاف وشعار وإعلام ودعاية. فيما هذا الغرب المتحوّل عن إسرائيل لنصرة فلسطين، ينفر من تيوقراطية حلف نتانياهو الصهيوني. فكيف له أن يتبنّى نموذجه الإسلاموي المطابق المقابل؟!
لحظة تراجيديّة لحماس
هنا يبدو أنّ حماس ذاهبة إلى لحظة تراجيدية على الطريقة الإغريقية. ذلك أنّ ما أنجزته في عملية “طوفان الأقصى”، هو فعلاً ما فجّر قضية فلسطين في العالم. وسمح لمناصريها بأن يكسروا الصمت ويرفعوا الصوت.
لكنّ انتصار هذه الفلسطين بالذات، قد يكون مشروطاً بانكسار هذه الحماس تحديداً. فماذا ستختار الأخيرة عندها؟
هل تقبل حماس ثابتة أنّها وُجدت هي من أجل فلسطين، فتكمل التضحية لأجل قيام دولتها الوطنية المستقلّة؟
أم تتعنّت في الاعتقاد بأنّ فلسطين وُجدت من أجل مشروعها الإسلاموي، فتكمل عنادها. وتنتهي إلى النتيجة نفسها ربّما. مع فارق أن تقبض إيران ثمن تضحياتها. لا فلسطين.
إقرأ أيضاً: غزّة وحروب الآلهة: هولوكوست ذرّي… واغتيال نتانياهو
سؤال تراجيدي مطروح على محمد الضيف وقوّاته: لمن تهدون انتصاركم وعواقب الانتصار؟ لطهران أم للقدس؟
يبقى من يقول باحتمال أن تتكيّف حماس. وإمكان أن تكرّر مسار منظمة التحرير من قمّة الجزائر 1973، بعد حرب أكتوبر بالذات، وتكريسها ممثّلاً شرعياً للفلسطينيين، وصولاً إلى أوسلو في أيلول 1993.
لكنّ بين التاريخين 20 عاماً. فمن يقدر على انتظارها؟ والأهمّ أنّ بين التاريخين هزيمة عسكرية للمنظمة في بيروت 1982، على يد عدوّها شارون، وهزيمة أخرى في طرابلس 1983، على يد “شقيقها” الأسد، ليخرج أبو عمّار من النكستين، ويمضي عشرة أعوام في صحراء العبور إلى تسوية أوسلو.
فهل هذا المطلوب لفلسطين وشعبها؟ أم المنشود فلسطين حرّة الآن؟!
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@