كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في خطاب له خلال تجمّع انتخابي في ولاية “تكساس” الأميركية قبل أيام قليلة، عن استئذان إيران من الولايات المتحدة للردّ على عملية اغتيال قاسم سليماني. وقال ترامب: “لقد كان عليهم أن يردّوا لحفظ ماء وجههم، وهذا أمر طبيعي. أبلغونا أنّه سيتمّ إطلاق 18 صاروخاً على قاعدة أميركية في العراق، لكنّها لن تستهدفها مباشرة، بل ستطال محيطها فقط”. وأوضح ترامب أنّ “أيّ جندي أميركي لم يصب بأذى في القصف”، وأنّه كان “الشخص الوحيد الذي لم يكن غاضباً” غداة ما حصل بسبب علمه بنوايا إيران.
رسالة ترامب للعرب
أهميّة ما كشف عنه ترامب لا تكمن فقط في “صوريّة” الردّ الإيراني على اغتيال شخصية بحجم ووزن قاسم سليماني، وأنّه كان أقرب إلى المشهد التمثيلي. بل ويشكّل كلامه رسالة بالغة الأهمية للعرب عامّة والفلسطينيين خاصة بعدم التعويل على ردّ إيراني إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية التي تُشنّ على الشعب الفلسطيني برعاية أميركية، وأنّ وحدة الساحات ما هو إلا شعار إعلامي ذو مفاعيل سياسية فقط.
إن كان هذا الموقف الإيراني متعقّلاً ويجنّب المنطقة حرباً لا يمكن أبداً التنبّؤ بمآلاتها، إلا أنّه في الوقت نفسه يشكّل خيبة أمل عند الجماهير السنّية التي انجرفت خلف البروباغاندا الإيرانية البارعة، ففوجئت بأنّ حماس تُركت وحيدة كي تواجه الجيش الإسرائيلي بشجاعة وبسالة، وتُرك أيضاً الشعب الفلسطيني عارياً أمام آلة القتل الإسرائيلية التي لا تشبع من دماء أبنائه وأطفاله. وحسب الميزان الشعبي لا السياسي فإنّ شعار وحدة الساحات “كان صرحاً من خيال فهوى”.
“الطوفان الإيراني” بوجه السنّة
في موازاة الردود ذات الطابع الإعلامي التي لم تتجاوز حتى اللحظة الإطار الذي أشار إليه ترامب، استغلّ نظام الملالي “طوفان الأقصى” وارتداداته كي يطلق العنان لأذرعه الطويلة في المنطقة لتنفّذ “طوفاناً سنّياً”، يكاد لا يخبو حتّى تعيد إيران تسييل تدفّقاته من جديد.
يتمثّل أحد نماذج توجيه الغضب السنّي في قيام نائب رئيس المجلس السياسي للحزب محمود قماطي بالتحريض العلني على الدول العربية من قلب عكار خلال مهرجان أقامه منذ أيام قليلة “تيار الوفاق العكاري”، أحد أذرع سرايا المقاومة، تضامناً مع غزّة
البداية من إيران نفسها:
1- منع اللغة العربيّة
في 17 تشرين الأول 2023، أي بعد عملية “طوفان الأقصى” بعشرة أيام، اتّخذت السلطات قراراً بمنع تعليم الأطفال كلّ اللغات الأجنبية، بما فيها اللغة العربية، وذلك في رياض الأطفال ودور الحضانة والمدارس الابتدائية. أمّا سبب التركيز على المراحل العمرية الأولى للإنسان فهو عائد إلى “أنّ الهويّة الإيرانية للطفل تتشكّل خلال هذه المراحل”، حسب كلام مسعود فرجاني، المسؤول في وزارة التربية الإيرانية، في تصريح إلى وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”.
الهدف من القرار هو الحفاظ على الهويّة القومية الفارسية من التأثيرات الأجنبية وخاصة العربية. لا ريب أنّ كلّ القوميات التي تعتبر نفسها مهدّدة بالذوبان تفعل ذلك، إنّما في الحالة الإيرانية يبدو الأمر متناقضاً مع البروباغاندا التي سعى نظام الملالي إلى تسويقها منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1978 بأنّ إيران هي دولة المستضعفين في العالم. كما أنّ القرار نفسه سينجم عنه تعميق الهوّة الثقافية مع المجتمعات العربية والخليجية، ولا ينسجم أبداً مع الاستراتيجية الإعلامية الإيرانية التي تضع الجماهير العربية في صدارة اهتماماتها وتحاول مخاطبتها بلغتها عبر العديد من وسائل الإعلام.
2- الحكم على رغد صدّام حسين
فيما تقوم آلة الحرب الإسرائيلية بشنّ حرب إبادة على الشعب الفلسطيني، أصدرت محكمة عراقية حكماً غيابياً بالسجن لمدّة 7 سنوات على رغد ابنة الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين. واستند الحكم إلى قانون “اجتثاث البعث” السيّء الذكر، الذي استخدمته جماعات إيران وأميركا معاً لاضطهاد السنّة وإخراجهم من المعادلة السياسية العراقية. المفارقة في الحكم أنّه اتّهم رغد صدّام حسين، التي تقيم مع أبنائها في الأردن منذ الغزو العراقي عام 2003، بنشر أفكار إرهابية خلال مقابلات تلفزيونية سابقة كانت تستذكر فيها فترة حكم والدها لا أكثر.
الحكم يعيد إحياء المخاوف والهواجس السنّية، ولا سيما مع سعي القوى الشيعية التي تشكّل “الإطار التنسيقي” الحاكم إلى تقزيم دور السنّة في الحكم من خلال تغذية صراعاتهم البينيّة ودعم نشوء تحالفات سنّية متصارعة، ناهيكم عن استغلال تركيز الاهتمام على ما يحدث في غزّة من أجل الدوس على عاطفة الجماهير السنّية حتى خارج العراق من خلال الإساءة المستمرّة إلى صدّام حسين حتى بعد شنقه.
3- تهديد الإمارات والكويت
بعد الحكم بأيام، هدّدت “ألوية الوعد الحقّ – أبناء الجزيرة العربية”، وهي فصيل عراقي ينضوي ضمن الحشد الشعبي، بضرب القواعد الأميركية في الإمارات والكويت، ردّاً على الدعم الأميركي الممنوح لإسرائيل. بدا اختيار الكويت بالذات مستغرباً، خاصة أنّ علاقتها مع العراق لا تزال طريّة العود، وبالكاد تعافت من جراح الغزو العراقي، إضافة إلى كون الكويت من أبرز وأكثر الداعمين للشعب الفلسطيني، كما يظهر من قوافل الإمدادات الإغاثية وسيارات الإسعاف التي أرسلتها إلى غزّة.
بيد أنّ الكويت ليست الهدف الفعلي، فما هي سوى بوّابة للوصول إلى السعودية التي تشكّل الهدف النهائي لتلك التهديدات. ويتّسق ذلك مع التهديدات التي سبق أن أوردتها صحيفة “كيهان” الإيرانية المتشدّدة والمقرّبة من المرشد علي خامنئي منذ أسابيع قليلة، والتي تحدّثت علناً عن استهداف الأراضي السعودية عبر مجموعات عراقية.
لم تنتظر إيران انتهاء “طوفان الأقصى” لتبدأ في استثمار هذه العملية ضدّ الأنظمة العربية. بل هي بدأت، تحت وابل القصف الإسرائيلي الهمجي لغزّة، بتحضير موجات “ما قبل سياسية”، لتضرب المجتمعات السنيّة
4- تهديد الأردن
إحدى حلقات الطوفان الإيراني “السنّي” كانت على الحدود الأردنية – العراقية، مع اعتصام المئات من مقاتلي “الحشد الشعبي” الذين وفدوا إلى الحدود بشكل منظّم. وقد منعوا مرور شاحنات النفط العراقي، بذريعة عدم السماح بتصدير النفط إلى الدول التي أبرمت سلاماً مع إسرائيل.
الذريعة التي حاولت الأذرع الإعلامية الإيرانية تسويقها هي أنّ هؤلاء المقاتلين يريدون الالتحاق بجبهة القتال مع إسرائيل، الأمر الذي يضع الدولة الأردنية تحت ضغط شديد. فيما الهدف الحقيقي هو الأردن نفسه، فهو الدولة الوحيدة ضمن “الهلال الخصيب”، الذي كان الملك الأردني عبد الله الثاني أوّل من تحدّث عنه، التي لا تزال عصيّة على التطويع على الرغم من كلّ محاولات إغراقها بالكبتاغون، سواء من خلال كونها ممرّاً نحو الخليج أو مستقرّاً نهائياً، وسائر أنواع المضايقات والضغوطات، مثل السعي الدائم إلى تقديم الملك الأردني بصورة الخائن للقضية الفلسطينية.
يحدث ذلك بالتوازي مع توجيه إخباري منظّم بختم كلّ خبر عن غزّة بالتحريض على الأنظمة العربية، فيما يجري تجاهل غياب أيّ تظاهرة تضامنية مع فلسطين، سواء في طهران أو في دمشق، وامتناع الأخيرة عن التصريح لإدانة إسرائيل أو دعم حماس.
يتمثّل أحد نماذج توجيه الغضب السنّي في قيام نائب رئيس المجلس السياسي للحزب محمود قماطي بالتحريض العلني على الدول العربية من قلب عكار خلال مهرجان أقامه منذ أيام قليلة “تيار الوفاق العكاري”، أحد أذرع سرايا المقاومة، تضامناً مع غزّة.
إقرأ أيضاً: أبو عبيدة وباسم يوسف: من يحمي “رواية” المقاومة؟
في الخلاصة، لم تنتظر إيران انتهاء “طوفان الأقصى” لتبدأ في استثمار هذه العملية ضدّ الأنظمة العربية. بل هي بدأت، تحت وابل القصف الإسرائيلي الهمجي لغزّة، بتحضير موجات “ما قبل سياسية”، لتضرب المجتمعات السنيّة، وأنظمتها، في سياق محاولتها السيطرة على ما تبقّى من جيوب سنيّة عربية خارج سيطرتها المباشرة، في الدول التي “تغلغلت” فيها، وبدء معارك لفتح جبهات “تغلغل” جديدة في الدول الأخرى، ليس أوّلها الأردن، وليس آخرها الكويت أو الإمارات…