لم تكن القيادة السياسية والمؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية الوحيدة التي أساءت التقدير وفوجئت بهجمات حماس القاتلة في 7 أكتوبر (تشرين الأول). فواشنطن المشغولة باحتواء الصين وحرب أوكرانيا ومحاولات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، أخفقت ايضاً باستشراف المخاطر وأزمات الشرق الأوسط مرة جديدة.
لم يكن هناك يوما قلّة أو نقص في المعلومات الاستخباراتية أمام سيّد البيت الأبيض، وتحديداً من الشرق الأوسط. لكنّ المشكلة هي إساءة التقدير وتقاطع المعلومات والخلاصات السياسية التي ساهمت إلى حدّ كبير في الإخفاقات الأميركية في الشرق الأوسط.
أحداث الشرق الأوسط لطالما فاجأت واشنطن منذ سقوط شاه إيران:
– اجتياح صدام حسين للكويت.
– عمليات التفجير في لبنان من قبل وكلاء إيران التي ضربت مقرّ المارينز واستهدفت السفارة الأميركية في الثمانينات.
– هجمات 11 أيلول 2001 الإرهابية وانهيار حكومة كابول وكارثة الانسحاب من أفغانستان…
جميعها أحداث أربكت واشنطن التي فشلت باستشرافها وكانت تتعاطى معها بمنطق رجل الإطفاء، أو ردّ الفعل، دون استراتيجية واضحة لإخمادها وعدم تكرارها.
خير دليل على أنّ واشنطن مستمرة في هذا النمط هو تصريحات مستشار الأمن القومي التي عاد وسحبها من التداول، وتحدث فيها عن “هدوء” لم يشهده الشرق الأوسط لعقود.
تقارير من واشنطن تشير إلى تململ في صفوف فريق وزارة الخارجية الأميركية وجرى تداول مذكرات داخلية وعرائض تنتقد سياسة بايدن وكيفية مقاربته للحرب في غزّة
التقييم الخاطىء من بايدن وفريقه
جايك ساليفان، القريب جداّ من الرئيس جو بايدن، والذي يشارك في صناعة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، كتب لعدد تشرين الثاني / كانون الأوّل المقبل، من “مجلة شؤون الخارجية” (تمّ حذف هذه المقاطع من النسخة الإلكترونية على الإنترنت، وقامت صحيفة “وول ستريت جورنال” بإعادة نشرها)، كتب أنّ الرئيس بايدن “ورث منطقة كانت تحت ضغط كبير… كانت القوات الأمريكية تتعرّض لهجمات متكرّرة في العراق وسوريا… توقفت هذه الهجمات، على الأقل للآن، في معظمها…”.
وأضاف: “الوضع الإسرائيلي الفلسطيني متوتر، خصوصاً في الضفة الغربية، لكنّنا في مواجهة التوترات الجادّة، قمنا بتخفيف الأزمات في غزّة واستعدنا الدبلوماسية المباشرة بين الأطراف بعد سنوات من غيابها… لقد تصرّفنا عسكرياً لحماية الأفراد الأميركيين، وقمنا بتعزيز الردع، مع الدبلوماسية، لردع مزيد من العدوان الإيراني… التقدم هشّ، بالطبع. لكنّه ليس صدفة أيضاً”.
وختم: “المنطقة أهدأ مما كانت عليه لعقود… يعيد [بايدن] الانضباط إلى السياسة الأمريكية. يركز على ردع العدوان، وتخفيف التوترات، ودمج المنطقة”.
هذا التقييم الخاطئ للوضع في الشرق الأوسط يشكّل فضيحة سياسية ويشير إلى حدّ كبير إلى سوء فهم دينامية الأحداث في المنطقة.
مسؤولون أميركيون سابقون وحاليون يؤكدون أنّ المؤسسات الأميركية كانت تحذّر وتعطي النصائح وتعزو الفشل في تجنّب الأزمات إلى القرار في البيت الأبيض الذي يخضع لاعتبارات داخلية وسياسية.
تقارير من واشنطن تشير إلى تململ في صفوف فريق وزارة الخارجية الأميركية وجرى تداول مذكرات داخلية وعرائض تنتقد سياسة بايدن وكيفية مقاربته للحرب في غزّة.
هذا التباين بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية سيحدّ من قدرة واشنطن على اجتراح حلول لمعالجة الأزمات المتزايدة.
الرئيس بايدن الذي يفاخر بأنّ له معرفة كبيرة بالشؤون الخارجية أراد أن تكون إدارته هي التي أوقفت حروب واشنطن المكلفة في الشرق الأوسط، فكان القرار بالإسراع في الانسحاب من أفغانستان وتخفيف الانتشار العسكري في الشرق الاوسط… وإذا بإدارته اليوم تسارع إلى إرسال حاملات طائرات و تعزيز وجودها العسكري بعدما أيقنت أنّ المسكّنات الديبلوماسية غير كافية لمعالجة مشاكل المنطقة المستعصية.
إزاء هذا التردد وسوء التقدير والرغبة بعدم الانغماس في مشاكل الشرق الأوسط، مازال العالم يترقّب خطوات واشنطن المقبلة لمعالجة الأزمة. وحتّى هذه الساعة مازالت سياسة بايدن قائمة على تحقيق هدفين:
– دعم إسرائيل الثابت وضرورة استعادة هيبتها العسكرية.
– السعي لعدم توسع الحرب.
أن تفاجأ واشنطن بحرب غزّة يعني أنّها لا تمتلك رؤية أو مشروع جاهز لكيفية معالجة مشكلات الشرق الأوسط. قد يكون بايدن آخر القيادات الغربية التي عايشت الحرب الباردة ومقاربته للسياسة الخارجية بحاجة إلى تجديد وضخّ أفكار جديدة بعد التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم. وهناك من يشكّك بقدرته على ذلك.
يتمّ حالياً في عواصم القرار حول العالم التداول بأفكار حلول للأزمة. لكنّ معظم هذه الأفكار والمقترحات مازالت تعتمد القياس على الطرق التي عولجت بها أزمات وحروب سابقة في المنطقة، ولا تأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات الكبرى في اللاعبين وأدواتهم.
إقرأ أيضاً: حلّ الدولتين: شعبان لا مكان آخر يذهبان إليه
ما حصل في 7 أكتوبر وما تلاه من حرب إسرائيلية مدمّرة لغزّة، شكلّ تحولاً كبيراً في طبيعة الصراع يتطلّب أفكاراً جديدة وخلّاقة، وقبل كل شيء الاعتراف بأنّ كلّ من شارك في إدارة ومتابعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من كل الأطراف، قد فشل فشلاً ذريعاً. وهناك ضرورة لبزوغ وجوه جديدة و مشاريع خلّاقة ومنطقية.
وبانتظار تبلور أفكار جديدة، يقتصر الطموح على نشوء إدارة كفوءة للصراع.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@