أيّ “حماس” ستبقى بعد الحرب؟

مدة القراءة 7 د


بعد ثمانية عشر يوماً على بدء الحرب، وجدت حركة “حماس” نافذة مفتوحة لإمكانية التفاوض على وقف لإطلاق النار، ولو بعنوان “هدنة إنسانية” مؤقتة. تلك لحظة تنتظرها الحركة لإعلان الانتصار، لكن الجميع باتوا يدركون أن هذه الحرب مختلفة، فما بعدها لن يكون كما قبلها.

بدت الفرصة من خلال المعلومات المتواترة في عدد من الصحف، منها “نيويورك تايمز” و”هآرتس”، عن ضغوط أميركية على تل أبيب لتأجيل العملية البرّية، بهدف “إعطاء فرصة لمفاوضات الإفراج عن المزيد من الأسرى”. وقد أجادت “حماس” لعب ورقة الإفراج عن رهينتين أميركيّتين، ثم عن عجوزين إسرائيليّتين، فيما كانت الأنباء تتردد عن مفاوضات متقدمة للإفراج عن 50 رهينة من جنسيات أجنبية متعددة، بجهود قطرية ومصرية.

المكسب الأهم لـ”حماس” من الإفراج عن الرهائن أن نافذةً فُتحت للتخاطب مع الأميركيين عبر القنوات الأمنية والدبلوماسية في الدوحة والقاهرة، بعدما صنفها الخطاب الرسمي والإعلامي في واشنطن بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) بأنها “داعش غزة”، أي أنه أسقط منها الأهلية للتخاطب والتفاوض، وأعطى المشروعية الكاملة لإسقاط حكمها بالقوة المفرطة، بلا قيود على العملية العسكرية.

ما زال الخطاب الرسمي الأميركي يرفض فرض قيود على إسرائيل، لكن المعلومات تتواتر عن تباين الأجندات بين الطرفين

داعش.. أم إرهاب سيكولوجيّ؟

ملف الرهائن وضع الحكومة الإسرائيلية أمام ضغوط محلية وخارجية. فهي من جهة لا تستطيع الوقوف في وجه أي جهد للإفراج عن الرهائن، ومن جهة أخرى لا تستطيع الاعتراف بالتفاوض مع “حماس”، مهما كانت القنوات، للإفراج عن الرهائن ذوي الجنسيات المزدوجة. فيما تصر على إبقاء ملف الأسرى بكامله خارج الأولويات في المرحلة الراهنة، لئلا يؤثر على سير العملية العسكرية. لذلك كان حرص الحكومة الإسرائيلية منذ اللحظة الأولى على التأكيد أنها “ليست جزءاً من التفاوض” مع “حماس”، بل إن المتحدثين الحكوميين وصفوا إطلاق “حماس” للعجوزين بـ”الإرهاب السيكولوجي”.

ما زال الخطاب الرسمي الأميركي يرفض فرض قيود على إسرائيل، لكن المعلومات تتواتر عن تباين الأجندات بين الطرفين. وليس أدل على ذلك من الجملة العرَضية التي ألقاها الرئيس الأميركي جو بايدن حين سئل عن التفاوض لإعلان هدنة إنسانية مقابل الإفراج عن الرهائن: “يجب إطلاق الرهائن وبعدها نتحدث”. المهم هنا أنه مستعد للحديث.

يبدو الآن أن التعايش مع عدم تقويض حكم “حماس” بات خياراً ممكناً في واشنطن، ولو أنه ليس كذلك في تل أبيب. فرئيس الوزراء بنيامين نتانياهو مستعجل للهجوم البري على الرغم من مخاطره، لأن اليمين الإسرائيلي يدرك أن تأجيل العملية البرية قد يكون الطريق لإلغائها، فيما ساعات كثيرة تدور عقاربها بثقل: 360 ألف جندي ينتظرون منذ أسبوعين في المعسكرات، فيما الاقتصاد يفتقر إليهم، وأهالي الأسرى ينصبون الخيام في الشوارع احتجاجاً، وأصواتهم تصبح كل يومٍ أكثر ارتفاعاً وتأثيراً في الرأي العام، والتضامن بين الأطياف السياسية الإسرائيلية يتضاءل، فيما تصبح أصوات الأحزاب المعارضة أكثر تحرراً في المطالبة باستقالة الحكومة.

حماس وتجربة طالبان مع أميركا

في الواقع، ربما تبدأ التباينات بالظهور بين “حماس” ورعاتها، وربما داخل “حماس” نفسها، حين يبدأ الحديث الأميركي معها، ولو عبر القطريين. في الأشهر السابقة لهجوم 7 أكتوبر كان القطريون والأتراك يبذلون جهوداً بعيدة عن الأضواء لفتح قنوات للتفاوض المباشر بين “حماس” والأميركيين، مستندين إلى تجربة الدوحة في استضافة التفاوض بين واشنطن و”طالبان”، التي أفضت إلى تسليم أفغانستان إلى هذه الأخيرة، وتقبّل وجودها كسلطة أمر واقع.

لم يكن واضحاً أفق تلك المحادثات، لكن الأكيد أن الأتراك كانوا يعوّلون عليها الكثير. يكفي كواحد من المؤشرات أن وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار كان يعد لزيارة تل أبيب لبحث مشروع كبير للتعاون في مجال الطاقة، يشمل تطوير حقل “غزة مارين” للغاز قبالة شاطئ غزة ومدّ خط للأنابيب من الحقول الإسرائيلية إلى تركيا بحراً، لتوفير منفذ لتصديرها إلى أوروبا.

مهما تكن جدية تلك المساعي، فإن حكومة نتانياهو، الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، كانت ترى مصلحة في إبقاء الوضع الراهن في قطاع غزة على حاله لتبرير تجاوز الفلسطينيين في اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية

هدنة 10 سنوات.. وغاز وصيد

قبل ذلك، كانت الحكومة الإسرائيلية قد أعلنت في حزيران الماضي الموافقة على تطوير حقل “غزة مارين”، لكنها ربطت ذلك بشروط أمنية مع مصر والسلطة الفلسطينية. وتزامن ذلك مع أنباء سادت في تلك الفترة عن التفاوض على اتفاقية هدنة طويلة الأمد لعشر سنوات بين إسرائيل و”حماس”، تتضمن فتح المطار والمرفأ وتطوير حقل الغاز وتوسيع منطقة الصيد البحري وتخفيف القيود على المعابر الحدودية. إلا أن مسؤولي “حماس” نفوا أن تكون مصر قد تقدمت بمقترح كهذا بعدما زار وفد منهم القاهرة مطلع الصيف.

مهما تكن جدية تلك المساعي، فإن حكومة نتانياهو، الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، كانت ترى مصلحة في إبقاء الوضع الراهن في قطاع غزة على حاله لتبرير تجاوز الفلسطينيين في اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، بالذريعة الشهيرة: “عدم وجود شريك فلسطيني”.

7 أكتوبر أسقط دبلوماسيّة حماس

أتى هجوم 7 أكتوبر ليسقط الاعتبار الدبلوماسي الدولي لـ”حماس”، وباتت في الخطاب الرسمي الأميركي “الشر المحض”. في الدوائر الدبلوماسية من يضع لذلك الهجوم  سياقاً من شد الحبال الداخلي بين المجموعة العسكرية المتشددة والأقرب إلى إيران في غزة، والجناح البراغماتي في الدوحة، متمثلاً بشكل خاص بخالد مشعل وموسى أبو مرزوق.

أظهر الهجوم أن قيادة يحيى السنوار في غزة ليست ملتصقة بإيران بالقدر الذي كان متوقعاً، فقرار الهجوم فاجأ طهران وحارة حريك بقدر ما فاجأ أنقرة والدوحة. لكنه أظهر شيئاً آخر، هو أن الكلمة العليا على الأرض تبقى للمستوى العسكري أكثر من المستوى السياسي الخارجي.

تُرجمت العملية لدى جناحَي الرعاية لدى “حماس” بارتباك إيراني وغضب تركي في الأيام الأولى. مرد الارتباك الإيراني إلى الحرص على عدم الإطاحة بما تحقق في التفاوض تحت الطاولة مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فيما تدرك طهران في الوقت نفسه أن لحظةً كهذه لا يجوز إفلاتها، لأن من يشارك في الحرب يحضر على طاولة التسوية ويقبض الثمن. لذلك حضرت أطياف “البروكسي” الإيرانية في المناوشات والتصعيد المحدّد السقف، من جنوب لبنان إلى قاعدة التنف الأميركية.

أما الغضب التركي من “حماس”، أو على الأقل من الجناح العسكري في غزة، فترجم بكلام قاس نُقل عن مسؤولين كبار في أنقرة على العسكريين الذين أسقطوا شهوراً من العمل الدبلوماسي مع واشنطن وتل أبيب.

حماس: جناح عسكريّ… وجناح سياسيّ

أما في واشنطن، فبعيداً عن مقولات “الشر المحض”، لوحظ في الإعلام الأميركي محاولة لتفحص “حماس” من الداخل. إذ أفردت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريراً مطولاً تناولت فيه الهيكل التنظيمي للحركة، والتباين بين الجناح العسكري في غزة والسياسي في الدوحة.

أعادت الصحيفة التذكير بما سمّي “وثيقة المبادئ والسياسات العامة” التي أحدثت ضجة كبيرة حين أعلنها خالد مشعل عام 2017، وفيها التزام بـ”صيغة توافقية وطنية مشتركة” تشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تتّجه إلى ضرب الحزب بعنف

ليس هناك ما يفاجئ في تقديم مشعل، ومعه موسى أبو مرزوق، كجناح معتدل في “حماس”. لكن السؤال الأهم عما إذا كان الرجل قادراً على قيادة “حماس” كلها إلى خيارات سياسية من خارج الكتاب السياسي الذي تقرأ منه الحركة منذ تأسيسها.

حتى الآن، أبدت أجنحة “حماس” قدرة على صياغة استراتيجية تفاوض موحّدة في ملف الأسرى، لكن الأمر سيتغيّر حين تظهر الوقائع الجديدة التي تفرزها الحرب. لن تقضي إسرائيل على “حماس”، بل أقصى ما تطمح إليه أن تجعل منها نسخة أخرى من “فتح” الثمانينيات.

قد يكون من الواقعي لإسرائيل والولايات المتحدة العمل على تقويض قوتها العسكرية ثم إيجاد طريقة لإدخال ما بقي منها في المجال السياسي.

سيجيب الميدان على هذا الاحتمال، لكن هل تبقى “حماس” جسماً واحداً حين تقف أمام الخيارات السياسية غير التقليدية؟

تأخرت هذه اللحظة كثيراً، لكنها ستحين قبل أن يهدأ غبار الحرب.

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…