“لا تضيعوا وقتكم وجهدكم. لا أحد في واشنطن يهتمّ لكم أو يسمع بكم. إذهبوا وتحالفوا مع الحزب. عدوّ واشنطن بالذات. إنّها الوسيلة الوحيدة للفت نظرهم إليكم. وبالتالي لفتح قناة تواصل بينكم وبينهم. بعدها عليكم أن تخترعوا طرحاً أو رؤية أو مشروعاً، تهتمّ له واشنطن، ويؤمّن مصلحة لبنان، أو مصالحكم فيه. كلّ الباقي بلا جدوى”.
كانت هذه نصيحة أحد خبراء واشنطن لسياديّي لبنان في زمن الوصاية، على هامش مؤتمر لوس أنجلس الشهير في تموز 2002.
بعد المؤتمر ومشروع محاسبة سوريا يومها، وبعد النصيحة وملاحقة المؤتمرين في لبنان، دارت الأيام دورتها. أقدمت واشنطن ثمّ أحجمت. عادت بيروت ملفّاً أميركياً، ثمّ غابت. حتى ماتت.
إلى أن بلغنا هنا والآن: ففي لبنان اليوم، وفق الحسابات الخارجية، لاعبان اثنان: واشنطن ومن معها. والحزب ومن وما يمثّل.
داخلياً، ثمّة مكوّنان اثنان: الدولة بما هي مفهوم، بما كانته أو بقي منها أو يجب أن تكون. والحزب، بما هو عليه، وبما يبدو أنّ مشروعه يتّجه نحوه.
لبنان الدولة والوطن كان دوماً مشروع تسوية يومية. لكنّه كان دوماً أيضاً مشروع توازن أو غلبة، بين أكثرية وأقليّات
بين هؤلاء استحقاق الرئاسة. فكيف يمكن توظيفه، بين واشنطن والحزب، وبين الأخير والدولة اللبنانية، لمحاولة أخيرة لإنقاذ البلد. هذا هو السؤال الأساس.
*******************************************
أصلاً لبنان الدولة والوطن كان دوماً مشروع تسوية يومية. لكنّه كان دوماً أيضاً مشروع توازن أو غلبة، بين أكثرية وأقليّات.
بين 1920 و1943 كانت أكثرية المسيحيين مع لبنان صغير. وكانت أكثرية المسلمين مع سوريا كبرى.
لكنّ وعياً ميثاقياً راح يتبلور لدى أقلّيّتين مسيحية ومسلمة، يقوم على اعتناق فلسفة لبنان، وعلى النضال لأجل استقلاله، لا تقسيمه ولا تذويبه. هذا وعي جعل من هاتين الأقليّتين أكثرية، أكبر من مسيحيّي الانفصال، ومن مسلمي الوحدة، كلّ منهم على حدة. فصنعتا لبنان الدولة ثمّ الاستقلال.
بين 2004 و2005 تكرّر شيء ما من المعادلة نفسها. لكن معكوسة. كانت أكثرية الطبقة السياسية، من مسلمين ومسيحيين، مع الوصاية. فيما أكثرية الناس مع السيادة. حتى لاحت فرصة تلاقي الساحتين، بين 8 و14 آذار، قبل أن يُهدرها الطرفان. وفي 17 تشرين حصل الأمر نفسه. الناس يريدون دولة. الزعماء يريدون سلطة. فكان الصدام وانتصرت السلطة على الدولة، حتى سقطت الدولة وصمدت السلطة، على نزع واحتضار.
ما الذي استجدّ اليوم؟
لكن بين 1920 و1943 وحتى 2005 واليوم، طرأ عنصر جديد وازن بل حاسم على المشهد، هو الحزب بما يعنيه من ثلاثة معطيات غير مسبوقة:
– أوّلاً: اختزاله لطائفة مؤسّسة وأساسية.
– ثانياً: إمكاناته الأكبر من مفهوم حزب أو حتى دويلة.
– وثالثاً: ارتباطه بمرجعية أكبر من البلد وخارجة عنه، اسمها إيران الثورة الإسلامية تحديداً، وبالتالي تفاعله مع مشروعها وسياساتها خارج لبنان.
حيال هذا المشهد الجديد، قامت ثلاث محاولات للتعايش مع الحزب:
1- أولاها، التحالف الرباعي سنة 2005 بين الحزب وخصومه. وهو التحالف الذي سقط نتيجة افتراض كلّ طرف سوء نيّة الطرف الآخر: الحزب اعتبر أنّ 14 آذار أرادت من التحالف تحييده عن معركتها مع بشار الأسد، لتستفرد به بعدئذٍ، عبر محكمة دولية أو حتى عبر عدوان إسرائيلي. فيما 14 آذار اعتبرت أنّ الحزب أراد من التحالف تقطيع الوقت، بحيث تستمرّ تصفية رؤوسها بمسلسل الاغتيالات الذي لم يتوقّف…
2- بعد التحالف الرباعي، حاول ميشال عون صادقاً التفاهم مع الحزب، عبر وثيقةٍ لم يدرك كثيرون أهميّتها في حينه. ولم يدرك طرفاها نفساهما عمق جوهرها. فصرفها أحدهما على بلطجة رئاسة، أو حتى على اقتناص عضو/عضوة في كازينو لبنان. فيما حصرها الآخر بمسوّدة تفاهم بين شخصين، لا بين جماعتين أو بيئتين…
3- المحاولة الثالثة كانت في 17 تشرين. يوم نزل الناس ضدّ منظومة السلطة. فوجد الحزب نفسه معها ضدّهم. لحظة وطنية قصوى، سقطت نتيجة انطباعين متناقضين:
– انطباع الحزب، أو ذريعته، بأنّ كلّ من هو ضدّ السلطة التي يحميها، هو عميل سفارات وصهيوني.
– وانطباع مقابل كان ردّ فعل لدى الثوّار، يعتبر أنّ كلّ من هو مع الحزب محتلٌّ إيراني، أو سلطوي فاسد.
استمرّت الأزمة حتى صارت مأزقاً ثمّ انفجاراً فانهياراً.
المطلوب الآن وفوراً، رئاسة تعيد بناء الدولة، وتحفظ عناصر قوّة المقاومة. لأنّ أيّ وهمٍ بدولة تلغي عناصر قوّة المقاومة اليوم، هو انتحار
المحاولة الرابعة اليوم
الآن ثمّة فرصة رابعة نظريّة لإعادة إحياء معنى الميثاق اللبناني، كما محاولة تجديد التفاهم بين الحزب والدولة.
معنى الميثاق لا ضرورة لكلام كثير عنه. يكفيه بيان الثوابت الإسلامية في أيلول 1983 بالذات، التي هي في أساسها مأخوذة من أدبيات السيد موسى الصدر، للمفارقة مع الأدبيات الشيعية الراهنة. وهي الثوابت التي صارت اتفاق الطائف. لا لزوم لزيادة حرف ميثاقي واحد عليها وعليه.
تبقى إعادة تجديد جوهر التفاهم بين الحزب والدولة. وهو ما يجب أن ينطلق من تسليم مزدوج متبادل:
– لا يمكن للدولة في لبنان اليوم أن تتخلّى عن أيّ عنصر من عناصر قوّة المقاومة.
– ولا يمكن للبنان اليوم أن يخرج من كارثته وأن يبقى حيّاً، في ظلّ هيمنة أيّ عنصر من عناصر مشروع سياسي إيراني في لبنان. والأمر نفسه مع فرضية أيّ مشروع خارجي آخر، أميركي أو فرنسي أو أي خارج آخر.
والتفاهم على هذا الجوهر يحتاج إلى أمرين:
1- الالتزام بسقف لتعايش الدولة والمقاومة، اسمه “استراتيجية دفاعية” تحت مظلّة الدولة.
2- والتسليم بسقف لأيّ مشروع حزبي، هو الخضوع للدستور والقوانين اللبنانية المرعيّة كافة بلا استثناء ولا اجتزاء.
هكذا يصبح المطلوب الآن وفوراً، رئاسة تعيد بناء الدولة، وتحفظ عناصر قوّة المقاومة. لأنّ أيّ وهمٍ بدولة تلغي عناصر قوّة المقاومة اليوم، هو انتحار. وأيّ تذرّع بمقاومة، لابتلاع الدولة والمجتمع والوطن، هو جنون وجهل مطلقان.
تركيبة كهذه ستكون حتماً مرحلية وانتقالية… حتى جلاء تطوّرات الأمور في منطقتنا والعالم، خصوصاً تطوّر هذه المسارات تحديداً:
– واشنطن – طهران.
– طهران – الرياض.
– الرياض – فلسطين – إسرائيل.
– وبين المسارات الثلاثة مصير دمشق وما ستكون عليه.
– ومع كلّ تلك، مستقبل التنقيب عن غازنا وثرواتنا.
هي معطيات تحتاج إلى خمس سنوات على الأقلّ، لتظهر نتائجها وتداعياتها على ما حولنا وانعكاساتها علينا في لبنان.
خمس سنوات، ما يقارب مدّة ولاية رئاسية تقريباً، هو وقت الانتظار اللازم، لمعرفة هل يبقى لبنان أو يزول.
إقرأ أيضاً:
وبالتالي نحن أمام ولاية رئاسية، من مهامّها الفعليّة أن تقيم عهد انتظارٍ للدولة، كأنّها غرفة انتظار لمريض. وخيار الرئيس وشخصه يحسم:
هل ننتظر في ولاية – غرفة مريحة، تسمح بالانتظار والصمود والأمل وإعادة البناء والانبعاث من الموت؟
أم ننتظر في العراء والحريق والغريق، بحيث لا يبقى أحد منتظراً ولا تعود للانتظار جدوى؟
هذه هي مسؤولية كلّ المعنيين حيال استحقاق الرئاسة وشخص الرئيس، بمواجهة فجور الدجّالين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@