فلسطين 2024: المتاهة الجديدة للفلسطينيين..

مدة القراءة 7 د


خانة السنوات الشداد في روزنامة الفلسطينيين طافحة تتدفّق خارج حدود الموازين، ونصيبهم في أعوام الخير شحيح نادر، تحجبه عقود طويلة من احتلال بغيض نغّص حياتهم ومعيشتهم، وتلك التي لأسلافهم من قبلهم. وإن كان العام المنصرم يذهب بعيداً حاملاً معه يوم السابع من أكتوبر، فإنّه سيترك خلفه أسئلة كثيرة حول إدراك نصيب ذلك اليوم في ما سيخلّفه من آثار وتغييرات في قدرات الفلسطينيين على الانتصار والنجاة من عذاباتهم الطويلة.

7 أكتوبر يومٌ بعام
إذاً هو يوم بعام أو بسنة، أو هو عام أو سنة، بما قبل وما بعد.
وفي تفسير ذلك أنّ الضربة التي وجّهتها المقاومة الفلسطينية في غزة، بقيادة كتائب القسام التابعة لحركة حماس ، للمؤسّسة العسكرية الإسرائيلية العملاقة، ستظلّ أيّاً كانت نتائجها النهائية، تشغل الفلسطينيين وتؤثّر في مستقبلهم إلى ما لا يمكن حصره في وقت محدّد حاليّاً، وستأخذهم، وقد شرعت بالفعل، إلى مصير غير الذي عهدوه حتى الآن. وفي أساس ذلك ما يتعلّق باحتمالات نجاحهم في تحقيق حلمهم بإقامة دولة ذات سيادة وكيان خاصّ بهم أسوة ببقيّة الشعوب. وينسحب الاحتمال أيضاً على قدرتهم على النجاة من سيناريوهات علنية وسرّية تتربّص بهم من قبل الاحتلال وأعوانه الكثر.

بينما كانت الأنظار ترقب غليان الضفّة الغربية، انفجر الصاعق في غزة مع هجوم السابع من أكتوبر لتطال ارتداداته كلّ ما هو فلسطيني

كان الفلسطينيون قد عبروا السنة السابقة على وقع معركة أخرى في الضفة الغربية، معركة غذّتها اقتحامات الجيش الإسرائيلي التي كانت قد تمركزت في مدن جنين ونابلس وطولكرم وأريحا، والتي ترافقت مع نشوء خلايا مقاومة فلسطينية مسلّحة إثر تولّي المستوطنين زمام أمور الضفة الغربية بعد ارتفاع عددهم وعدد مستوطناتهم إلى رقم غير مسبوق منذ اتفاق أوسلو. كانت الضفة الغربية تغلي، وكانت السلطة الفلسطينية قد وصلت إلى أدنى مستويات شعبيّتها، لا سيما أمام عجزها عن حماية الفلسطينيين من اعتداءات الجيش والمستوطنين الإسرائيليين. بل إنّها بالكاد كانت تتمكّن من توفير جزء من رواتب موظّفيها بسبب مواصلة حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل قرصنة أموال الضرائب والجمارك التي تجبيها نيابة عنها. لم يكن ثمّة أفق لعودة مفاوضات التسوية التي جمّدتها إسرائيل منذ عام 2014. ولم تكن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد استطاعت الخروج من الأزمة السياسية التي رماها أمامها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس مع إصراره على صفقة القرن التي فتحت الطريق أمام اتفاقات تطبيع عربية إسرائيلية جديدة، فأصبحت السلطة وكأنّها لا حول لها ولا قوّة.

الغليان في الضفة والانفجار في غزّة
بينما كانت الأنظار ترقب غليان الضفّة الغربية، انفجر الصاعق في غزة مع هجوم السابع من أكتوبر لتطال ارتداداته كلّ ما هو فلسطيني. السلطة في رام الله عاجزة وغير قادرة على فعل شيء، وراحت الضغوط الأميركية والغربية تزداد عليها طلباً لإدانة هجوم حماس. وفي غزة أُطلقت أيادي إسرائيل المرتبكة والمتوجّعة من شدّة الضربة التي تلقّتها في صميم أمنها وفي عمق مؤسّستها العسكرية والأمنية التي تتباهى بقدراتها وسطوتها أمام العالم، وكأنّ إسرائيل بحاجة إلى تحريض لضرب الفلسطينيين.
من الواضح أنّ إسرائيل لم يكفِها قرابة الثلاثة شهور المنصرمة من عمر عام 2023، ومن عمر المعركة الدائرة رحاها في قطاع غزة وعلى تخوم كلّ ما هو فلسطيني، وأنّها ماضية، خارج حدود أهدافها المعلنة للحرب، في تدمير كامل قطاع غزة وإحالته إلى مكان غير قابل للعيش، غير عابئة بعشرات آلاف القتلى والمصابين وأكثر من مليون من النازحين، الذين خلّفتهم آلة الحرب المميتة التي لا ينضب وقودها بفعل الدعم الأميركي الغربي السخيّ، وكذلك العجز الأممي عن وضع حتى دواليب مطاطيّة في طريقها.
في الوقت الذي تبدي فيه المقاومة الفلسطينية في غزة بسالة منقطعة النظير، وقدرة كبيرة غير مسبوقة على تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر في المعدّات والأرواح، تعمّق إسرائيل هجومها الكاسح ضدّ المدنيين وتصرّ من خلال تدمير المساكن والمباني والمستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس والمرافق العامة على إزالة قطاع غزة وإجبار سكّانه على الهجرة الطوعية أو القسرية، وهو أمر لم يتردّد رئيس وزراء إسرائيل بنيامن نتانياهو في الإفصاح عنه علناً في جلسة أخيرة عقدها تكتّل الليكود الذي يرأسه.
على الصعيد السياسي، كان الهجوم الإسرائيلي الأميركي استباقياً مقابل موقف فلسطيني ظلّ على حاله، سواء من قبل قيادة منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية التي كرّرت دعوتها التقليدية إلى وجوب التوصّل إلى حلّ سياسي قائم على حلّ الدولتين، وهي المقاربة ذاتها التي لم تتمكّن من تحقيق أيّ تقدّم فيها خلال الثلاثين عاماً الماضية. بدورها حركة حماس لم يخرج من جعبتها أكثر من تأكيدها قبول حلّ الدولتين، وأنّها كما جاء على لسان رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية “منفتحة على نقاشات ومبادرات”.

لسان إسرائيل الذي لم ينطق أبداً بقبول حلّ الدولتين، أصبح أكثر ترفاً منذ السابع من أكتوبر، حيث ترفض حكومة نتانياهو أيّ دور للسلطة الفلسطينية في غزة مستقبلاً

المتاهة الجديدة للفلسطينيين
لسان إسرائيل الذي لم ينطق أبداً بقبول حلّ الدولتين، أصبح أكثر ترفاً منذ السابع من أكتوبر، حيث ترفض حكومة نتانياهو أيّ دور للسلطة الفلسطينية في غزة مستقبلاً، وتعمل كما تقول علناً على إنهاء حركة حماس وإخراج المقاومة من غزة بغضّ النظر عن الوقت الذي يتطلّبه الأمر. وأمام هذا الوضع الضاغط سياسياً على الفلسطينيين، خرجت إدارة الرئيس جو بايدن بمقترح “تجديد” السلطة الفلسطينية وتأهيلها لإدارة قطاع غزة في المستقبل. وفي اليومين الأخيرين تحدّثت مصادر عن “أفكار مصريّة” تقترح مبادرة لوقف الحرب على غزة وتتضمّن دعوة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط (مستقلّين) تتولّى الإشراف على قضايا الإغاثة الإنسانية، وملفّ إعادة إعمار قطاع غزة، والتمهيد لانتخابات عامة ورئاسية فلسطينية.

من المستبعد قبول منظمة التحرير تشكيل حكومة كهذه، وعلى الأغلب أن ترفضها حماس أيضاً. لكنّ عدم قدرة الفلسطينيين، منظمة التحرير وحماس والجهاد، على التقدّم بمقترح سياسي، وترك ميدان السياسة فارغاً أمام مبادرات أميركية وإسرائيلية ومصرية، وعجز مجلس الأمن الدولي عن اتّخاذ قرار بوقف إطلاق النار بسبب الفيتو الأميركي المتكرّر، كلّ ذلك من شأنه أن يتركهم مكشوفين أمام عمليات الابتزاز والضربات السياسية التي تواصلها إدارة بايدن وإسرائيل في مسعى واضح لتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية لاجئين إنسانية مرّة أخرى.
مع التدقيق في الوضع الذي آل إليه قطاع غزة، مكاناً وسكّاناً، واستحالته كارثة إنسانية غير مسبوقة، سيدرك الجميع أنّ أولويّات الفلسطينيين في طريقها إلى التغيّر من سياسية إلى إنسانية، لا سيّما في ظلّ غياب أيّ صوت يمكن أن يحمّل إسرائيل وإدارة بايدن الداعمة لها مسؤولية إعادة بناء غزة، وليس مجرد إعادة إعمار لأنّه لم يبقَ فيها شيء قابل لإعادة الإعمار. إضافة إلى إغاثة السكان النازحين الذين لم يعد لديهم ملاذ آمن، وما تتطلّبه مثل هذه العملية من جهود لا يقدر الفلسطينيون ولا من يقف معهم على تولّيها.

إقرأ أيضاً: هل هو عام فلسطين في العالم؟

من شأن مثل هذا الوضع، المتحقّق أصلاً على أرض الواقع، أن يربك حسابات الفلسطينيين وأن ينقلهم ربّما إلى متاهة جديدة، لا سيّما في ظلّ تواصل انقسامهم السياسي واستمرار إسرائيل في الضغط على قطاع غزة. وهي ضغوط تستهدف في جوهرها المقاومة في غزة لإجبارها على الخضوع والتسليم بمطالب إسرائيل حتى تخرج منتصرة في الميدان وفي السياسة، لكن لا مؤشّر على الإطلاق يقول إنّ المقاومة يمكن أن تقبل بمثل هذا الأمر، بل إنّ مواصلتها قتال الجيش الإسرائيلي وتكبيده خسائر تكبر يوماً بعد يوم مع الضغوطات والخلافات الإسرائيلية الداخلية والدعوات الدولية المتصاعدة إلى وقف إطلاق النار قبل تحقيق إسرائيل أهدافها المعلنة، يمكن أن تغيّر كلّ الحسابات.
يمكن أيضاً لهذا الانعطاف الكبير غير المسبوق، الذي حقّقته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر من العام المنصرم، والذي يتجلّى أيضاً في قدرتها على التصدّي لجحافل الجيش الإسرائيلي المعزّزة بترسانة أميركية وتفوّق تكنولوجي ودعم سياسي دولي شامل، أن يأخذ احتمالات النصر والنجاة الفلسطينيَّين إلى حيث لم يتوقّع أحد.

مواضيع ذات صلة

2023: موسم الهجرة الفرنسية من إفريقيا

يشبه المأزق الفرنسي في إفريقيا اليوم، المشكلة التي واجهتها المملكة المتحدة من قبل في دول الكومنولث، مع شيوع السردية المشكّكة في مستقبلها. فهل تشكّك فرنسا…

أوكرانيا بين الحظّ العاثر واللعنات الثلاث

لم تسِر سفن الحرب الأوكرانية في العام المنصرم كما يشتهي فولوديمير زيلينسكي. الهجوم المضادّ الذي شنّته كييف ضدّ القوات الروسية في الدونباس لم يحقّق أيّاً…

عام الحديد والنار

أطلقنا في “أساس” على العام 2023 اسم “الحديد والنار”. هو عام يختصر كل تاريخنا في هذه المنطقة وحكاية كل الاجيال التي ما عرفت عاماً من…

ساتلوف لـ”أساس”: إيران تُريد الاحتفاظ بالحزب ليوم آخر..

الحقّ الفلسطيني المسفوح دماً وقتلاً وتهجيراً منذ أن قام الكيان الإسرائيلي على أنقاض فلسطين أعاده إلى الواجهة عبور “حماس” على أرض غزة وفيها يوم 7…