أنطونيو غوتيريش.. “بالكوفيّة” الإنسانيّة

مدة القراءة 5 د


فعلها أنطونيو غوتيريش. بل لم يفعلها أحد سواه. انتظرنا ما قاله من عواصم كثيرة، بعضها في الشرق وبعضها في الغرب، والبعض الأخير والأوّل، بين ظهرانينا.
انتظرنا منذ السابع من تشرين الأول الماضي، لنسمع صوتاً يصدح بالحقّ، فلم يطرق مسامعنا ومسامع هذا العالم الأصمّ، إلا صوته. وحده أنطونيو غوتيريش، في هذه الغابة الكبيرة التي اسمها العالم، فعلها.
من صرح الأمم المتحدة التي يشغل منصب أمينها العامّ، وفي اجتماع مجلس الأمن، قال غوتيريش بالفم الملآن إنّ ما قامت به حماس في عملية “طوفان الأقصى” “لم يأتِ من فراغ”.
أبعد من ذلك، أعرب عن قلقه إزاء الانتهاكات “الواضحة” للقانون الإنساني الدولي في غزة، مؤكّداً أنّ “أيّ طرف في الصراع المسلّح ليس فوق هذا القانون”. وأضاف أنّ ما قامت به حماس “لا يبرّر القتل الجماعي الذي تشهده غزة”، و”الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 56 عاماً”.

تاريخ من المواقف
لم تمرّ تصريحات غوتيريش مرور الكرام عند الإسرائيليين، إذ ردّ عليه وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بحدّة مذكّراً إياه بمقتل مدنيين إسرائيليين في الهجمات التي شنّتها حماس على إسرائيل.
كما دعاه سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان إلى الاستقالة، وكتب على صفحته في موقع إكس منشوراً أعلن فيه أنّه لا يصلح لقيادة الأمم المتحدة لأنّه “أبدى تفهّماً للإرهاب والقتل”.
مواقف غوتيريش ممّا يحدث في غزة ليست الأولى له ولا الوحيدة. إذ سبق له أن وقف مواقف عديدة مؤيّدة للحقّ يوم كان رئيساً لوزراء البرتغال، فشارك بفاعلية في الجهود الدولية لحلّ أزمة تيمور الشرقية.

مواقف غوتيريش ممّا يحدث في غزة ليست الأولى له ولا الوحيدة. إذ سبق له أن وقف مواقف عديدة مؤيّدة للحقّ يوم كان رئيساً لوزراء البرتغال

خلال الفترة التي شغل فيها منصب المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بين عامَي 2005 و2015، ساهم في تحسين أداء المنظمة، ورفع عدد المنتسبين إليها والعاملين فيها في مناطق النزاعات والتوتّرات، وأدّت الصراعات في سوريا والعراق وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى واليمن إلى زيادة كبيرة في أنشطة المفوضية، وارتفع عدد النازحين واللاجئين بسبب الحروب والنزاعات من 38 مليوناً في عام 2005 إلى 110 ملايين نازح ولاجئ في أيار 2023.
كما حسم غوتيريش المفاوضات حول انتقال السيادة على ماكاو، المستعمرة البرتغالية، إلى السيطرة الصينية في عام 1999، بعد 12 عاماً.
أبرز مواقف غوتيريش بعيداً عن السياسة، موقفه من المثليّة الجنسية إذ صرّح مراراً وتكراراً بأنّه “لا يحبّ المثلية الجنسية”، قائلاً إنّها “تثير انزعاجه”.

شبه سيرة
هو أنطونيو مانويل دي أوليفيرا غوتيريش. وُلد في 30 نيسان 1949. سياسي برتغالي شغل منصب رئيس وزراء البرتغال من عام 1995 حتى عام 2002. بعدها، شغل منصب المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من حزيران 2005 حتى كانون الأول 2015. تولّى لفترة رئاسة الأممية الاشتراكية، وهو حالياً الأمين العامّ للأمم المتحدة منذ 1 كانون الثاني 2017.
درس غوتيريش الفيزياء والهندسة الكهربائية في المعهد العالي للتكنولوجيا التابع لجامعة لشبونة. تولّى التدريس فيه برتبة أستاذ مساعد بعد تخرّجه. بعدها بثلاث سنوات انتقل إلى العمل السياسي منتسباً إلى صفوف الحزب الاشتراكي البرتغالي في عام 1974.

غوتيريش رئيساً للوزراء وأميناً عامّاً
خلال رئاسته مجلس الوزراء في بلاده، أحكم غوتيريش قبضته على ميزانية بلاده فقلّل العجز فيها، وخفض نسبة التضخّم، ورفع معدّلات المشاركة في سوق العمل، خاصةً بين النساء، وحسّن من تحصيل الضرائب، ووسّع الاستثمار في القطاع التعليمي.

أبرز مواقف غوتيريش بعيداً عن السياسة، موقفه من المثليّة الجنسية إذ صرّح مراراً وتكراراً بأنّه “لا يحبّ المثلية الجنسية”، قائلاً إنّها “تثير انزعاجه”

هذا في بلاده يوم وصل إلى سدّة الحكم فيها. أمّا اليوم، في فترة تولّيه منصب الأمين العامّ للأمم المتحدة، فيسعى غوتيريش إلى عودة هذه المؤسسة الدولية الجامعة والمرجع إلى ممارسة دورها المنوط بها: الحفاظ على الأمن والسلم الدوليَّين.
مواقف غوتيريش وتصريحاته تمنح الأمل في أن تعود الأمم المتحدة إلى الأسس التي قامت عليها، عام 1945، بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية. حدَّد ميثاق الأمم المتحدة الغاية من تأسيسها بالمحافظة على السلم والأمن الدوليَّين عن طريق اتخاذ تدابير جماعية فعَّالة لمنع الأخطار التي تهدّد السلام وإزالتها، وتنمية العلاقات الودّية بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية للجميع، وتشجيعها، دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين، بالإضافة إلى أن تكون مركزاً لتنسيق أعمال الدول في تحقيق هذه الغايات المشتركة.
لكن للأسف، الأحداث التي تلت الحرب العالمية الثانية، خصوصاً الحرب الباردة، وصراع القطبين العالميَّين، ثمّ انفراد الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، همّشت الدور المنوط بها، والمرتجى من شعوب العالم كافةً، خصوصاً العالمثالثية منها، والضعيفة والمضطهَدة.

إقرأ أيضاً: “أبو عبيدة”: عنوان استعادة فلسطين لأهلها…

ما يقوم به غوتيريش، وما يسعى إليه، يدعو اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، إلى ضرورة توسيع صلاحيات هذه المنظمة الدولية، ومنحها ما يساعدها على تطبيق قراراتها، لبلوغ عالم أكثر أمناً وأماناً واستقراراً وعدالةً وسعادةً. أمّا في منطقتنا العربية، فوحده تنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن هذه المنظمة، بدءاً من القرار 194 و242، وصولاً إلى القرار 1701 الذي تخرقه إسرائيل كلّ يوم، على مرأى العالم أجمع، قادر على إعادة الحقّ إلى أصحابه، وإحلال السلام في المنطقة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

فلسطين 2024: المتاهة الجديدة للفلسطينيين..

خانة السنوات الشداد في روزنامة الفلسطينيين طافحة تتدفّق خارج حدود الموازين، ونصيبهم في أعوام الخير شحيح نادر، تحجبه عقود طويلة من احتلال بغيض نغّص حياتهم…

2023: موسم الهجرة الفرنسية من إفريقيا

يشبه المأزق الفرنسي في إفريقيا اليوم، المشكلة التي واجهتها المملكة المتحدة من قبل في دول الكومنولث، مع شيوع السردية المشكّكة في مستقبلها. فهل تشكّك فرنسا…

أوكرانيا بين الحظّ العاثر واللعنات الثلاث

لم تسِر سفن الحرب الأوكرانية في العام المنصرم كما يشتهي فولوديمير زيلينسكي. الهجوم المضادّ الذي شنّته كييف ضدّ القوات الروسية في الدونباس لم يحقّق أيّاً…

عام الحديد والنار

أطلقنا في “أساس” على العام 2023 اسم “الحديد والنار”. هو عام يختصر كل تاريخنا في هذه المنطقة وحكاية كل الاجيال التي ما عرفت عاماً من…