هل من علاقة بين حقل “قانا” وما يحصل في غزّة؟
بالتأكيد. يكفي دليلاً أنّ بين المكانين عاملين مشتركين: الولايات المتحدة وإسرائيل.
هل ما حصل في “قانا” مؤامرة على لبنان؟ بالتأكيد أيضاً.
لكنّ السؤال: متى وقعت المؤامرة ومن تآمر؟
وهل من الملائم الكلام الآن عن الموضوع؟
قطعاً نعم. لأنّ الحقيقة لا تحتاج ولا تقتضي ولا تنتظر توقيتاً مناسباً.
********************************
في الوقائع بات معروفاً أنّه في 12 الجاري، ذهب وفد من شركة توتال وأبلغ نجيب ميقاتي و”وكيل” وزارة الطاقة أن لا غاز بكمّيات تجارية في مكمن قانا.
بالمنطق العامّ، نتيجة كهذه لعملية تنقيب ممكنة نظريّاً. فحظوظ الإيجابية لأيّ تنقيب هي علميّاً عشرون في المئة.
لكن بمنطق وقائع الأمور في لبنان، ثمّة تساؤلات لا بدّ منها:
– أوّلاً، كيف توصّلت الشركة إلى هذه النتيجة وهي لم تستكمل العمق المطلوب للحفر؟
– ثانياً، لماذا طلبت الشركة قبل أسبوع بالتمام بطاقات عمل لخمسين موظّفاً جديداً لديها، للانضمام إلى منصّة الحفر، لتكتشف بعد أسبوع أن لا غاز وتطلب إلغاء الطلبات؟
– ثالثاً، لماذا سارعت الشركة الملتزمة من الباطن، إلى البدء بتفكيك المنصّة، قبل الوصول إلى تقرير كامل لما حصل وتقدير كامل لما يجب أن يتابع؟
– رابعاً، كيف للكونسورسيوم نفسه أن يتورّط في تهريبة حصوله مزايداً وحيداً على حقوق التنقيب في البلوكين 8 و10 قبل أسابيع، ثمّ يكتشف خلوّ ما بينهما من غاز ويسارع إلى التفكيك والانتقال إلى قبرص؟ هل يعني ذلك حصوله على البلوكين الآخرين بأبخس الأسعار، أوّلاً لعدم وجود منافس، وثانياً بعدما أحرق قيمتهما بنتيجة قانا السلبية؟
– خامساً، هل ستقدّم الشركة صوراً مقطعية من رأس الحفارة، للمكمن الخالي وفق زعمها، وهل تسلّم عيّنات من آخر نقطة حفر بلغتها قبل تفكيك الحفّارة ونقلها؟ أم تكتفي بذريعة أنّ العقد معها لا يلزمها بتقرير خطّي مفصّل؟
هذا في الوقائع المادّية.
في الوقائع بات معروفاً أنّه في 12 الجاري، ذهب وفد من شركة توتال وأبلغ نجيب ميقاتي و”وكيل” وزارة الطاقة أن لا غاز بكمّيات تجارية في مكمن قانا
الفضيحة الكبرى
لكن في المواقف السياسية تبدو الفضيحة أكبر. ففي 27 أيلول الماضي، أي قبل أقلّ من شهر، عقدت شركة توتال مؤتمرها السنوي في نيويورك. عرضت خلاله قيادتُها كلَّ مشاريعها وخططها ورؤاها. وثيقة من 46 صفحة. وتقرير للمداولات من 40 صفحة. فيهما ذكر لنصف بلدان الأرض تقريباً. ولا ذكر لكلمة لبنان. لا عمّا حصل سنة 2023. ولا عمّا سيحصل بعده.
في الوقت نفسه، كان ثمّة لبنانيون، يُفترض أنّهم مسؤولون، يُغرقون الناس بالتفاؤل. نبيه برّي قيل أنّهم أعطوه عيّنات من الحفر وقالوا له إنّ النتائج ممتازة، وهو ما جعله يعلن أنّه “تصله تقارير إيجابية ستصدر في شكل رسمي من “توتال” قبل نهاية الشهر الجاري”.
أكّد “وكيل” الطاقة أنّ الكونسورسيوم متفائل، وأنّ الخبراء الجيولوجيّين الذين يملكون البيانات متفائلون.
ذهب أحد “الغازيّين” رسمياً إلى تحديد الكمّية المكتشَفة بالتريليونات الدقيقة، قبل ساعات من صدمة “توتال”. حتى إنّ مسؤول الملفّ في الحزب خرج عن صمته في 5 الجاري متحدّثاً عن “ثروة”، وأنّ “كلّ البلوكات مبشّرة”. حتى بدأ البحث في أين نودع العائدات. حتى مجلس النواب شغلوه بصندوق الغاز.
مؤامرة؟ ربّما.
لكن بالتأكيد لم تبدأ مع “توتال” ولا في “قانا” ولا في تشرين الأول 2023.
بدأت المؤامرة يوم أسقطت هذه المنظومة الخطّ 29. وتنازلت عن بئر مكتشفة مضمونة وأكيدة في مياه لبنانية باليقين، مقابل مكمن محتمل وغير معروف النتائج.
والأهمّ أنّها ارتكبت بذلك الترسيم كلّ الانتهاكات: أعطت إسرائيل حقّ النقض على كلّ خطوة يمكن للبنان أن يخطوها. ومن يقُل عكس ذلك فهو جاهل أو متآمر.
ونسفت مبدأ مياهنا الإقليمية. حتى إنّها بعد سنة كاملة على إيداع وثائقها في الأمم المتحدة، لم تجرؤ بعد على نشر ما أودعته.
وأسقطت فعليّاً النقطة B1 من مراسلاتها، بدليل أنّ موقع الأمم المتحدة لم ينشر من مراسلتَيْ لبنان وإسرائيل، إلا 4 نقاط لإحداثيات بحرية، خلافاً للفقرة “ج” من القسم الأول من الاتفاق الفضيحة نفسه، الذي نصّ بشكل واضح على ضرورة إرسال إحداثيات المياه الإقليمية، التي تبدأ من ملامسة المياه للبرّ.
غباء أو تواطؤ
كلّ ردّ على هذه الوقائع غباء أو تواطؤ.
والأهمّ الأهمّ أنّها سلّمت مرجعية الحُكم والتحكيم والقرار والتقرير لمن؟ لواشنطن بالذات. واشنطن التي يرجمها اليوم موقّعو اتفاق كاريش، ويدينونها ويكادون يعلنون الحرب عليها. واشنطن هذه نفسها أعطاها أركان المنظومة، برعاية الحزب، وعبر عملاء كاريش فيها، كلّ ما يلي:
إذا حصل أيّ خلاف من أيّ نوع كان، بين لبنان وإسرائيل، حول مضمون الاتفاق، تتولّى واشنطن حلّه، بحسب منطوق الفقرة “أ” من القسم الرابع.
إذا حصل أيّ خلاف حول “التراكمات والمخزونات”، واشنطن هي المرجع للحكم، حسب الفقرة “أ” من القسم الثالث.
كلّ البيانات حول الحقول والمكامن ترسلها الشركات العاملة إلى واشنطن. ولواشنطن أن تطلع لبنان عليها، “في الوقت المناسب”، بحسب الفقرة “ب” من القسم الثالث أيضاً.
حتى لمن يتشدّقون اليوم بالذهاب إلى شركة أخرى للتنقيب، تذكّروا أنّكم أعطيتم واشنطن حقّاً صريحاً بالفيتو على اختيار أيّ شركة، بحسب منطوق الفقرة “ج” من القسم الثاني.
والأهمّ، لمن يضلّل اليوم بنقض الاتفاق، تذكّروا أنّكم تعهّدتم بأنّه لا يحقّ للبنان تعديل الترسيم المفروض في أيّ وقت لاحق، من دون موافقة إسرائيل، بحسب الفقرة “أ”، من القسم الرابع…
لماذا قبلت منظومتنا باتّفاق الإذعان هذا قبل سنة؟
قال أركانها صراحة إنّهم وافقوا لأنّ أيّ تمسّك بالخطّ 29 كان سيعني تهويلاً إسرائيلياً بتصعيد عسكري ضدّ لبنان!
اليوم، لا غاز. ولا راعي للاتفاق. إلا إذا كانت تظاهرات عوكر والجامعة الأميركية في بيروت، محاولات لإقناعه بالتوسّط.
فصار المشهد – المقارنة كالتالي:
قبل سنة، بذريعة الهروب من تهويل إسرائيلي بتصعيد عسكري ضدّ لبنان، قبلنا بالتنازل عن حقّ لبناني مؤكّد بالقانون الدولي وبقانون البحار وبقرارات المحاكم الدولية، ومعزّز بقوّة مؤكّدة من الحزب ومضمونة، ذلك أنّ تهديد كاريش كان كافياً لتعديل الموازين. وبذلك تخلّينا عن مصلحة لبنانية وطنية بديهية بالكامل.
اليوم، نقبل بخطر دخول حرب شاملة، بلا حقّ قانوني دولي، ولا قوّة مضمونة النتائج، ولا لمصلحة لبنان بشكل مباشر، بل لمصلحة يرى البعض أنّها إيرانية.
إقرأ أيضاً: لبنان يدفع ثمن حرب غزّة
تبقى إشارة بسيطة، بمنطق الممانعة وقاموسها: يقدّر معنيون أنّه لو أقرّت المنظومة الخطّ 29 حدوداً لها، وأبلغت الجهات الدولية والتجارية ذلك، لفتحت أمام لبنان جدّياً باب الإنقاذ الاقتصادي، ولألحقت بالكيان خسائر قد توازي الحرب الدائرة اليوم، وبلا حرب.
ألم يكن الحزب يعلم؟ بلى. لكنّه اضطرّ إلى تغطية عملاء “كاريش” ممّن حوله ومن المنظومة، لإنقاذها بعد 17 تشرين.
هؤلاء الذين تصرّفوا بدافع كيدية فرديّة بحتة. عنوانها: فلتخرب عن أيدينا. ولا يُسجّل إنجاز لآخرين.
نجحوا في ذلك فعلاً. لم يُسجّل إنجاز للبنان. وسجّلوا هم عار التاريخ على جباههم.
هي الحقيقة التي لا ردّ لهؤلاء عليها، إلّا بشتائم المفلسين أخلاقياً وسياسياً.
هذا كلّ ما نشره لبنان من مراسلته إلى الأمم المتحدة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@