لماذا هدّد السيسي بالحرب؟

مدة القراءة 7 د


قدّمت إسرائيل اعتذاراً عن قيام دبابة، الأحد الفائت، بإصابة موقع مصري قرب الحدود في منطقة كرم أبو سالم “عن طريق الخطأ” أسفر عن إصابة 9 جنود مصريين. لا يبدو أن القاهرة اقتنعت كثيرا برواية “الخطأ” وأحالت الأمر إلى التحقيق والتحقق. فيما سخّنت عواصم كبرى خطوط التواصل لتهدئة موقف اتّسم في الأيام الأخيرة بالتوتر بين القاهرة وتل ابيب.

كشف مصدر قريب من وزارة الخارجية الفرنسية أن موقف مصر من أزمة غزة قد قلب كل السياق الذي كانت الدول الغربية قد انقادت إليه منذ عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “كتائب عز الدين القسام” في 7 تشرين الأول الجاري. وأوضح المصدر أن القاهرة التي لها باع طويل في إدارة الأزمات السابقة والوصول إلى خلاصات توقف إطلاق النار، أظهرت “مخالب” مفاجئة معتبرةً أن ما يجري يرقى إلى مستوى “المسّ بالأمن القومي الاستراتيجي المصري”.

كشف مصدر قريب من وزارة الخارجية الفرنسية أن موقف مصر من أزمة غزة قد قلب كل السياق الذي كانت الدول الغربية قد انقادت إليه منذ عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “كتائب عز الدين القسام” في 7 تشرين الأول الجاري

لم تبتعد أجواء لندن بعد زيارة رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك للقاهرة في 20 من الشهر الجاري عن تلك التي في واشنطن والتي استنتجتها الولايات المتحدة بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن أيضاً في 15 من هذا الشهر. وأدركت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن طريقة استقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لبلينكن (وموفدين دوليين آخرين بما فيهم سوناك) لجهة التعبير عن موقف مصر علنا على الهواء مباشرة، يعكس قرارا خشناً بوقف التداول عبر القنوات الخلفية والكواليس الدبلوماسية وأن “مصر تخوض حرباً” للدفاع عن سيادتها وأمنها واستقلالها.

اعتبر دبلوماسيون أوروبيون أن موقف مصر (والأردن أيضاً) لجهة اعتبار سياسة تهجير الفلسطينيين باتجاه سيناء بمنزلة إعلان حرب، قد نبّه إدارة الاتحاد الأوروبي في بروكسل إلى الخطورة الحقيقية لتفجير الشرق الأوسط وما يعنيه ذلك من تداعيات سلبية مباشرة خطيرة على الدول الأوروبية. واعترف هؤلاء بأنّ موقف مصر الذي استفاد من وحدة الموقف العربي عامة الداعم للفلسطينيين، قد أعاد “الرشد” إلى “إدارة بروكسل” التي انخرطت في شعبوية مفرطة في تأييد إسرائيل. 

وكذلك عبّرت مواقف رئيسة المفوضية أورسولا فان در لاين عن هذا التخبط والارتباك حين ذهبت في إطار دعم إسرائيل إلى حدّ التلويح بوقف المساعدات للفلسطينيين، لتعود وتَعِدَ بمضاعفة هذه المساعدات بعد تدخّل عواصم مثل باريس ومدريد لتصحيح هذا الموقف. بالمقابل يكشف موقف منسّق السياسة الخارجية جوزيب بوريل الداعي إلى عدم التعرّض للمدنيين في غزة عن سجال خفيّ داخل أروقة القرار في بروكسل.

خبراء عسكريون فرنسيون: “مصر جديّة”

تحدّث بعض الخبراء العسكريين للإعلام الفرنسي عن معلومات بشأن جدية مصر في الإعداد لمنع إسرائيل من تنفيذ عملية ترانسفير جماعية لسكان غزة صوب الأراضي المصرية، وهي عملية تتّسق مع تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بالوعد بردّ عسكري على عملية “طوفان الأقصى” يصل إلى حدّ “تغيير الشرق الأوسط”. 

وقالت التقارير إن كلام الرئيس السيسي عن أنّ “فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء تعني جرّ مصر إلى حرب ضد إسرائيل” صاحبه تسجيل بداية تحركات للجيش المصري لم تعمل القاهرة على إخفائها. وتستند تلك التحركات إلى قرار استراتيجي لا لبس فيه عبّر عنه الرئيس المصري في كلمته في مؤتمر القاهرة للسلم الذي استضافته مصر السبت، بحسم أن “تصفية القضية الفلسطينية دون حلّ عادل لن تحدث، وفي كلّ الأحوال لن تحدث أبداً على حساب مصر”.

أرادت مصر من عقد مؤتمر القاهرة للسلام توفير اعتراف إقليمي دولي بدور مصر الأساسي والمفصلي في إدارة الأزمة وخفض سقوفها

ثم نقلت مصادر مصرية أنّ مسألة نقل سكان غزّة إلى سيناء قد أُثارها نتانياهو أمام الرئيس الراحل حسني مبارك الذي أجابه Forget it (انسَ الموضوع)، وأعاد إثارتها منذ حوالي عام أمام الرئيس السيسي الذي أجابه Undebatable (غير قابل للنقاش).

في المقابل كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد كشف عام 2018 أن الرئيس الراحل محمد مرسي قد عرض تقديم قسم من سيناء لإسكان فلسطينيّي غزة من ضمن مشروع “غيورا أيلاند”. وقال عباس إنّه أخبر مرسي برفض الاقتراح الذي اعتبره “تصفوياً” للقضية الفلسطينية.

صاحَب الموقف الرسمي السياسي، وعلى مستوى الرئاسة بالذات، تحرّك شعبي مصري، سواء من خلال التظاهرات أم المهرجانات النقابية، لا سيما تلك التي جمعت نجوم الفن والسينما في مصر، ناهيك عن حالة الغضب التي عُبِّر عنها من قبل العامة والنخب من خلال وسائط التواصل الاجتماعي. ويلقى موقف السيسي دعماً مصرياً عاماً إلى درجة أن الإعلامي المصري المعارض محمد ناصر أعلن دعمه للسيسي في موقفه “المحافظ على أرض مصر”.

الحزم المصري الأردني: يقوّض “اتفاقات أبراهام”؟

سجّلت عواصم الخارج استنفارا مصريا مجتمعيا وسياسيا ودبلوماسيا لم يسبق له مثيل منذ اتفاقات كامب ديفيد عام 1979. واعتبر متخصصون في شؤون الشرق الأوسط أن التوتر المصري يطيح بالفكرة التاريخية للسلم مع إسرائيل والتي ابتدأت مع مصر بالذات قبل أن يلتحق الأردن بهذا السياق بإبرامه اتفاقية “وادي عربة” مع إسرائيل عام 1994. ورأوا أن الحزم المصري الأردني الحالي قد يقوّض منافع “الاتفاقات الإبراهيمية” التي وقعتها إسرائيل مع 4 بلدان عربية.

لفتت بعض الأوساط الدبلوماسية الغربية التي سبق لها العمل في مصر أو مع مصر، أنّ موقف مصر ظهر واضحاً حازماً حاسماً ويحظى ببيئة عربية وإقليمية حاضنة وداعمة، خصوصاً بعدما كشفت التقارير عن إبلاغ الرياض واشنطن بقرار السعودية وقف المفاوضات التي كانت ترعاها الولايات المتحدة لإبرام اتفاق اعتبرته واشنطن مفصلياً وتاريخياً لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. 

مواقف الرياض إثر زيارة وزير الخارجية الأميركي للرياض، سواء على لسان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أو في البيان الذي صدر إثر لقاء بلينكن مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 15 من الشهر الجاري، جاءت واضحة بشأن  الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين والتوجه إلى حلّ حقيقي للقضية الفلسطينية. وترفد القاهرة بأرضية صلبة للمضي قدماً في التمسك بموقف يحظى برعاية عربية وأخرى تركية عبّر عنها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في زيارته للقاهرة في 14 تشرين الأول الجاري.

إقرأ أيضاً: القمّة المصرية: أميركا تعطّل الدبلوماسية… إنّه زمن الحرب

أرادت مصر من عقد مؤتمر القاهرة للسلام توفير اعتراف إقليمي دولي بدور مصر الأساسي والمفصلي في إدارة الأزمة وخفض سقوفها. وعلى الرغم من أنّ إسرائيل ما زالت تقرع طبول الحرب البرية وتعلن استعدادها لحرب في لبنان، إلا أنّ الموقف المصري ساهم، باسم كل المنطقة، في تظهير المزاج المصري والعربي العام، الذي بات عاملا ضاغطا لدفع المجتمع الدولي إلى إعادة ترشيد وترتيب مواقفه وفق ما سمعته وستسمعه العواصم من القاهرة. 

فُهم من البيان الرئاسي “الغاضب” الذي صدر بعد القمّة أنّ القاهرة نجحت في تقديم منصّة أظهرت تباعد العالم العربي والإقليمي على نحو حادّ مع الرؤى الغربية في شأن غزّة، وهو ما يعني أنّ الغرب أخذ علماً في مصر ومن مصر بأنّ الغرب ليس لديه حليف في المنطقة في حرب تجري في المنطقة، وأنّ على هذا الغرب إعادة قراءة مواقفه وفق هذا المعطى وهذا الواقع.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…