*يُنشر بالتزامن مع موقع ومجلّة طاقة الشرق
هل تضع حرب غزّة نهاية “الحفلة التنكّرية” السياسية والعقائدية المتواصلة منذ عقود، حيث غطّت أقنعة “تحرير فلسطين” وشعارات “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” مشاريع الهيمنة الحزبية والسياسية والشخصية والمذهبية؟
هل تدخل المنطقة مرحلة حسم التوجّهات بين خيارين أو مسارين: الأوّل حل الدولتين واعتماد مبادرة السلام العربية، مع تسويات تحفظ “ماء وجه” ومصالح القوى الإقليمية، فيعمّ الاستقرار وتزدهر “ممرّات” التجارة والاستثمار، وتعود حفّارات النفط للعمل، فيتمّ اكتشاف الغاز في حقل قانا، ويبدأ تطوير حقل غزّة مارين، والمسار الثاني هو حروب صغيرة وكبيرة بالوكالة والأصالة، تضبط إيقاعها بوارج وأساطيل الدول الكبرى، فيعمّ الخراب وتزدهر زواريب التهريب بين الكانتونات والكيانات المتقاتلة؟
يستند هذا السيناريو إلى فرضية أنّ أميركا التي رعت وأدارت مرحلة “الحفلة التنكّرية”، هي التي تدفع حالياً لإنهائها بعدما استشعرت أنّها باتت المتضرّر الأوّل منها كنتيجة لتراجع قوّتها الاقتصادية والعسكرية واضطرارها إلى إدارة الصراعات بأسلوب تقديم التنازلات، الأمر الذي عزّز موقف الدول المناوئة وموقف الصين، وذلك هو الخطر الأكبر. وهو ما حدث حين تمّت التضحية بمقتدى الصدر والمعارضة العراقية لتسهيل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية ـ الإسرائيلية.
يمكن القول إنّ أبرز ما يميّز المقاربة الأميركية الجديدة هو عدم التفاوض مع أيّ قوة إقليمية تحت ضغط التهديد بالحرب أو الاضطرابات الأمنيّة، ولتصبح الرسالة واضحة “نحن ننصح بعدم اللجوء إلى الحرب، ولكن من يريدها فليفعل”. وقد مارست ذلك مع إيران، وحتى مع إسرائيل، وتمارسه حالياً مع الحزب. فأميركا تدرك كما غيرها أن لا قدرة لأيّ دولة على شنّ الحروب بغياب روسيا وإحجام الصين عن التدخّل العسكري.
تسريب معلومات خلال زيارة هوكستين الأخيرة، مفادها أنّ ائتلاف الشركات العاملة في البلوك 9 (توتال، إيني، قطر للطاقة)، سيوقف عمليات الحفر لأنّه لا يوجد أيّ مكمن للغاز
لماذا لجأت “حماس” وإيران للحرب؟
تضافرت عدّة عوامل دفعت حركة حماس وإيران إلى اتخاذ قرار المواجهة في غزّة، أهمّها:
– إعلان ممرّ الهند ـ الخليج ـ أوروبا الذي يشكّل ضربة قوية لموقع ودور إيران. وتلا ذلك تطوّر الحديث عن التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي.
– الضربة الكبرى في إقليم ناغورنو كاراباخ والتأييد الأميركي الغربي للممرّ الاقتصادي التركي الذي يربط أوروبا بآسيا الوسطى فالصين، والأهمّ التفريعة الجنوبية إلى ميناء الفاو المعروفة باسم “القناة العراقية”.
– انتهاء صلاحية اتفاقية “السجناء ـ الأرصدة” حتى قبل أن يجفّ حبر توقيعها، وتصاعد الحديث عن توجّه أميركا إلى التشدّد في تطبيق العقوبات على إيران، وخاصة تلك المتعلّقة بتصدير النفط. إضافة إلى فرض قيود على استخدام المليارات المودعة في البنوك القطرية.
– تصاعد الضغوط العسكرية الإسرائيلية والأميركية على الوجود الإيراني في سوريا، وتزامن ذلك مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في الجنوب السوري، ومع الضغط على لبنان للانتهاء من تثبيت الحدود البرّية مع إسرائيل، وهو ما يؤدّي عملياً إلى تشديد الطوق على شرعية سلاح الحزب مع انتفاء المشاكل الحدودية.
– تسريب معلومات خلال زيارة هوكستين الأخيرة، مفادها أنّ ائتلاف الشركات العاملة في البلوك 9 (توتال، إيني، قطر للطاقة)، سيوقف عمليات الحفر لأنّه لا يوجد أيّ مكمن للغاز. وهو ما تمّ إعلانه لاحقاً. الأمر الذي اعتبره الحزب وإيران طعنة في الظهر، وجعل اتفاقية الترسيم البحري بمنزلة شيك بلا رصيد.
من أحرق ورقة “حماس”؟
إذاً الحرب كانت حاجة إيرانية حمساوية إلى كسر حالة الاستعصاء السياسي، وتحريك المفاوضات. وكانت إيران ترى في القدرات العسكرية لكتائب القسام و”الجهاد”، مع “الاستخدام الرشيد” لها في عمليات نوعية، فرصة تاريخية لتحصين حقوق الفلسطينيين وتحسين شروطها التفاوضية مع أميركا المتعلّقة بالنووي والنفوذ الإقليمي. ولكن لسبب “معلوم ـ مجهول” تمّ الإفراط في استخدام القدرات العسكرية لحركة حماس، والمبالغة الإعلامية في تظهير هذه القدرات بغزو إسرائيل برّاً وبحراً وجوّاً، واحتلال مستوطنات وقتل وأسر مئات الجنود والضبّاط. ولكنّ النتيجة تحويل “حماس” إلى “بعبع جديد” أشبه بتنظيمَيْ القاعدة وداعش، وهو ما يسهّل تصفيته وسط تأييد وتصفيق العالم.
هناك عشرات الأسئلة عمّا حدث صبيحة ذلك اليوم، وعن الجهات المشاركة علناً أو سرّاً، وعن عمليات القتل غير المفهوم للمدنيين، التي يبدو أنّ مقاتلي القسّام لم يشاركوا فيها أو كانت مشاركتهم فردية ومحدودة. وللتوضيح فقط، لنلاحظ كيف يتمّ “الاستخدام الرشيد” لورقة القدرات العسكرية في تعاطي الحزب مع فتح جبهة الشمال لأنّ إيران ليست بوارد إحراقها. ولذلك من المرجّح أن يتواصل “الاستخدام الرشيد” للقوة العسكرية على جبهة الجنوب.
القوى الإقليمية المعنيّة مثل السعودية ودول الخليج ومصر وتركيا، فالمرجّح أن تكون الرابح الأكبر، خاصة إذا تمكّنت من فرض معادلة التطبيع مقابل حلّ الدولتين وتنفيذ مبادرة السلام العربية
الانقسام الفلسطينيّ وإعادة هيكلة السلطة
النتيجة الأوّلية، بغضّ النظر عن تطوّرات الحرب، هي أنّ ورقة “حماس” وكتائب القسّام قد أُحرقت وأُسقطت من أيدي طهران التي كانت تمثّل الراعي العسكري لها. وعادت بالتالي إلى أيدي الراعي العقائدي ـ المالي، أي تركيا وقطر، وجانب منها إلى أيدي الراعي أو الحاضن الأمني، أي مصر. وإذا كانت “حماس” هي الضحية الأولى لهذه الحرب، فإنّ نتانياهو واليمين المتطرّف الرافض لأيّ بحث لتسوية عادلة للفلسطينيين سيكونان الضحية الأهمّ.
أمّا القوى الإقليمية المعنيّة مثل السعودية ودول الخليج ومصر وتركيا، فالمرجّح أن تكون الرابح الأكبر، خاصة إذا تمكّنت من فرض معادلة التطبيع مقابل حلّ الدولتين وتنفيذ مبادرة السلام العربية. وهو الحلّ الذي تؤيّده أيضاً واشنطن.
يبقى التحدّي الكبير هو نجاح القوى الفلسطينية في إعادة الإمساك بزمام المبادرة من خلال: أولاً إنهاء حالة الانقسام والقطيعة بين الضفة والقطاع، وثانياً إعادة هيكلة وتأهيل منظمة التحرير لتضمّ حركة حماس وكلّ الفصائل بدون استثناء، ثمّ إعادة إنتاج سلطة وطنية جامعة والخروج من تلك التصنيفات والاصطفافات المعلّبة. وبالمناسبة ألم يحِن الوقت لكي تضغط الدول العربية لإطلاق سراح قيادات فلسطينية قد تلعب دوراً مهمّاً في المرحلة المقبلة، مثل مروان البرغوتي وأحمد سعدات.
الغاز الضحيّة الثالثة
ستعاني صناعة النفط والغاز في إسرائيل من عمليات إقفال طويلة بدأت في حقل تمار وتمتدّ تدريجياً مع تطوّر الأعمال العسكرية إلى الحقول الشمالية.
لكنّ صناعة النفط والغاز في لبنان وغزّة ستكون في طليعة ضحايا الحرب على المدى المتوسط. ففي لبنان تتمثّل المشكلة في أنّ البلوكات الجنوبية التي تعتبر الأكثر قابلية لوجود مكامن ضخمة، هي بحكم المصادرة أو ملفّ منسيّ “على الرفّ في مكاتب توتال”. ففي البلوك 9 مثلاً، وفى الكونسورتيوم (توتال، إيني، قطر للطاقة) بالتزاماته التعاقدية وقام بحفر بئر “تبيّن أنّها لا تحتوى سوى الماء”، ولن يتمّ حفر أيّ بئر في المدى المنظور إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
أمّا البلوكان الجنوبيان 8 و10 فقد وُضعا بشحطة قلم من وزير الطاقة على “الرف نفسه في مكاتب توتال”. وتمّ ذلك من خلال إعلان الوزير المفاجئ وغير المبرّر إقفال دورة التراخيص الثانية التي سارع الكونسورتيوم ذاته إلى التقدّم فيها بعرضين للمزايدة على هذين البلوكين قبل ساعة واحدة من انتهاء المهلة القانونية. ولا يكفي أبداً القول إنّ الوزارة غير ملزمة بقبول العرضين ويمكنها رفضهما. فالرفض يجب أن يكون معلّلاً، خاصة إذا كانت الشركات مستعدّة للتفاوض بشأن الشروط. ولوضع هذه الخطوة في سياقها السياسي، وتبيان أهميّتها وخطورتها، نشير إلى أنّ البلوكات الجنوبية الثلاثة باتت في وضع قانوي ملتبس، وأنّه لا يمكن للحكومة اللبنانية الاستعانة بشركات أخرى للتنقيب أو العمل في هذه البلوكات. أمّا “فكّ أسرها” فيتطلّب إطلاق دورة تراخيص جديدة، بدل الدورة التي أقفلها الوزير. وإطلاق الدورة الجديدة لا يتمّ إلا بقرار من مجلس الوزراء. ويعرف الجميع أنّ مجلس الوزراء لن يجتمع لفتح دورة تراخيص قد تتقدّم لها شركات صينية أو ماليزية أو روسية بشروط مغرية. عاقل يحكي وعاقل يفهم.
إقرأ أيضاً: “الأمن” لبايدن: بداية انفجار الشّرق الأوسط
ما ينطبق على لبنان ينطبق على حقل غزّة مارين في فلسطين. فقد نجحت مصر في انتزاع هذا الحقل من أيدي الإسرائيليين في عملية قانونية سياسية معقّدة تمّت في شباط 2021، وقضت بمقايضة حاجة إسرائيل إلى تصدير الغاز عبر محطات التسييل المصرية بموافقتها على قيام شركة “إيغاز” المملوكة للحكومة المصرية بالمشاركة في امتياز الحقل إلى جانب صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتّحاد المقاولين CCC. ويُقدّر احتياط الحقل بنحو 1 تريليون قدم مكعب تغطّي حاجة فلسطين لمدّة 20 عاماً. وكان وزير البترول المصري المهندس طارق الملا قد توقّع مطلع الشهر الجاري، إنجاز عمليات التطوير والحفر في حقل غزة مارين خلال أقلّ من عامين. ولكنّ نتائج الحرب قد تتطلّب من الوزير الملا الذي تولّى “هندسة” الاتفاقية، إعادة النظر بموعد الإنجاز .
الخلاصة: مساران متوازيان لا يلتقيان:
المبادرة العربية للسلام، مع حفّارات نفط وممرّات تجارة واستثمار.
مواصلة “الحفلة التنكّرية” لتحرير فلسطين، مع بوارج وحروب وزواريب تهريب بين الكيانات المذهبية والعرقية المتقاتلة.